قبل الخوض في موضوع الحرب لا بد من الاشارة الى أن الحرب غير الغزو، إذ إن الغزو عمل عسكري من قبل دولة قوية لإخضاع دولة ضعيفة عسكريًا ولكنها غنية في الموارد الطبيعية وقد يكون لها أهمية استراتيجية من حيث الموقع. والدول القوية التي تمارس الغزو تدخل في صراعات عسكرية فيما بينها، وهذه الصراعات بين الكبار هو الحرب، مثل الذي حصل في الحربين العالميتين.
وطبيعي أن الدول القوية، وهي تستفرد بالمناطق التي غزتها واستولت على مواردها الطبيعية واستخدمت أراضيها كمواقع عسكرية في غزواتها الأخرى وحفظ مصالحها أمام القوى المنافسة، تعمل على إزاحة الدول القوية الاخرى من خارطة نهب الدول التي تهيمن عليها، وهذا ما حصل بعد الحرب العالمية الثانية عندما محت أمريكا الاستعمار الاوروبي (خاصة البريطاني والفرنسي) من خريطة النهب الاستعماري وحلت محلها بنمط استعماري جديد يتمثل في تثبيت النفوذ في الدول التي وضعتها تحت سطوتها.
ورغم استقلال تلك الدول وعضويتها في الأمم المتحدة، إلا أن طبيعة العلاقة بينها وبين الاستعمار الجديد يحرمها من حق السيادة على مواردها الطبيعية وعلى علاقاتها بالدول الأخرى وحتى على علاقتها بشعوبها.
منذ حوالي 500 عام نصح مكيافيلي الأمير الذي كان يتزلف اليه بهذا القول الموجز غير المفيد للانسان على مسافات المدى كلها: «ينبغي للأمير ألا تكون له غاية أو فكرة سوى الحرب...»، فإذا كانت هذه النصيحة اللامسؤولة موجهة الى أمير صغير، فكيف بإمبراطورية عظيمة مثل بريطانيا وفرنسا واليوم أمريكا.
ومن المخجل والمحير أن هذه النصيحة كانت من إحدى ثمار عصر النهضة، والتي تحركت بعدها اساطيل الاستعمار الاوروبي لإخضاع بقية دول العالم... إنها حرب بعد حرب والحرب مستدامة، أي النهب مستدام، وليس النمو المستدام للشعوب التي لا حول لها ولا قوة سوى الانصياع.
الحروب من باردة وغزوات حامية ومواجهات ساخنة تتابعت بعد الحرب العالمية الثانية والى اليوم الذي نشهد فيه شرارة حرب قابلة بأن تنزلق الى ما لا يحمد عقباه. القطب الأوحد لا يطمئن الى بروز قوى جديدة لا تقل عنها قوة في الدمار الشامل ومكانة في الاقتصاد، فأخذت تخطط و تتآمر ضدها كي تشغلها وتعرقل نموها وتكابل شعوبها عليها، وترهقها في مواجهات مع جيرانها عل قواها تتهالك مع تفاقم المواجهة ومن ثم تتحول الى لقمة سائغة لها. تحت بريق هذا الامل في نفس القطب الأوحد، استطاع هذا القطب أن يتسبب في اندلاع شرارة على أرض أوكرانيا لإرهاق روسيا عليها، و لكن، لسوء حظ القطب الأوحد، فإن معظم الآمال ليست قابلة للتحقيق، وهذا ما جعل القائد السياسي الأعلى في أمريكا (القطب الأوحد) يحك رأسه ويعبس وجهه مصرحًا عن خوفه من الانزلاق في مواجهة مباشرة مع الروس، بعد سنتين من تغذية الشرارة بدعم متواصل من أمريكا ذاتها وبقية الحلفاء في الناتو، ولكن دون جدوى لتحقيق الأمل المنشود. الأدهى بالنسبة للقطب الاوحد هو الخوف من تفكك أواصر الارتباط في بنية الناتو، واستقلال أوروبا، ولو بعضها، من هذا الرباط العسكري الذي أصبح عبئًا عليها (أي على أوروبا)، خاصة بعد أن تكشفت لها أنانية القطب الأوحد في حرمان أوروبا من الغاز الروسي وبيع الغاز على أوروبا بسعر مضاعف دون أدنى اعتبار للوضع الاقتصادي الحرج في أوروبا وللدور الاوروبي في دعم القطب الأوحد في استراتيجيتها العسكرية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية الى اليوم. هذا الخوف من الاستقلال العسكري لأوروبا عن الحليف الأعظم أمريكا، ستكون له تداعيات سلبية على مجمل استراتيجيات أمريكا في العالم، بما في ذلك استراتيجيتها في الشرق الاوسط، حيث بنت لنفسها أعظم قاعدة عسكرية في التاريخ سمتها اسرائيل.
إضافة الى حرب القطب الأوحد في أوكرانيا فإنها تواجه اليوم حربًا أخرى لم تكن في حساباتها ولا حسابات العالم أجمع، وهذه الحرب الجديدة في طبيعتها ونوعيتها تمس قاعدتها العسكرية العظيمة والتي صارت هدفًا صريحًا جريئًا من جهات عديدة. أين المصلحة الاوروبية في كل ما يجري في اوكرانيا وفي غزة ؟ وقد يكون القادم من المفاجآت أعظم وأخطر، وهذا تطور خطير بالنسبة لأمريكا مما دفع رئيسها السيد جو بايدن أن يصرح قائلًا: «المخاطر تتجاوز أوكرانيا بكثير... هناك خطر متزايد من انجرار الولايات المتحدة مباشرة إلى هذا الوضع. ويجب على الكونجرس تكثيف جهوده والتصرف دون مزيد من التأخير. إن مخاطر هذه المعركة تذهب إلى ما هو أبعد من أوكرانيا. لا يمكننا أن نخذل حلفاءنا وشركاءنا... لا يمكننا أن نخذل أوكرانيا». هذه رسالة موجهة، لا الى العالم ولا الى روسيا، بل الى أوروبا، ارتيابًا ورعبًا من أوروبا، بتحذيرها على انغام اسطوانة مشروخة وهي أن أوروبا مازالت تواجه تهديدًا روسيًا منذ العهد السوفييتي الى اليوم وما بعد اليوم، وأنه ليس من سبيل لأوروبا إلّا أن تواصل تحالفها مع أمريكا. ولغة التصريح تخفي في ثناياها تهديدًا صريحًا بأن من يخرج عن طوع أمريكا في بيت الناتو فالويل له، لأن بيت الناتو العسكري يتساوى عند امريكا مع بيت الدولار الاقتصادي، والبيتان يؤازران بعضهما بعضًا، فإذا سقط بيت تهاوى البيت الآخر. الغرب، بجناحيه الامريكي والاوروبي، أمام مأزق تاريخي يهيئ لمنعطف تاريخي قابل لخلق مسافة في العلاقة بين الجناحين يساوي المسافة التي يمثله المحيط الاطلنطي بين الشاطئ الامريكي والشاطئ الاوروبي. والذي يساهم في هذا المنحى من المأزق هو جدلية العلاقة، أي وحدة الاضداد، بين السياسة والاقتصاد فيما بينها وتداعيات هذه الجدلية على السلم والاستقرار في أوروبا. أوروبا أمام معادلة مصيرية جديدة، وهذه المعادلة تدفع أوروبا الى مفهوم جديد؛ لضمان امنها وسلامتها، إذ أن اية مواجهة عسكرية مع روسيا مباشرة سيكون لها نتائج مدمرة لكامل أوروبا، غربها وشرقها، وأنه بالنتيجة وحسب طبيعة الامور ليس امام أوروبا إلاّ السعي الى تفاهم اوروبي اوروبي.
المنطق الحضاري يعقب على مخاوف الرئيس الأمريكي بتذكيره أن كرة المخاوف في ملعبه، وليست في ملعب الروس ولا حتى في ملعب أوروبا، وأنه اذا أراد أن يهدئ من روع مخاوفه عليه أن يفتح باب السياسة ويحرك أدوات الدبلوماسية، وأن يعمل جديًا على اطفاء نار الحرب على أرض أوكرانيا، ويعمل جديًا على حل القضايا العالمية العالقة وعلى راسها القضية الفلسطينية وقضية الفقر والبيئة. لا شك، إذا انزلقت أمريكا في الحرب، وهو انزلاق خطير، بل انزلاق أحمق، فان أمريكا ستجد نفسها أمام احتمالين، أحد الاحتمالين ليس في صالح أمريكا ذاتها، والثاني ليس في صالح البشرية قاطبة.
والقرار بيد أمريكا ذاتها، وعليها أن تقبل وتقر بطبيعة الامور والاشياء والعلاقات، وهي كلها تتناغم و تنمو مع التعدد وتنهار مع مرض التوحد... وهذا يعني أن القطبية الواحدة مرض في جسم التاريخ يؤثر سلبًا على مصير البشرية.
أوروبا تشعر بالحرج والارتباك والتردد مع تطورات الحرب في اوكرانيا واندلاع حرب أخرى في غزة، وإن الذي يجري في غزة مفاجأة صدمت أوروبا وأربكت أمريكا، ودفعت أوروبا الى مراجعة حساباتها، ووضعت أمريكا في وضع الخائف على مكانته العالمية. وماذا بعد اوكرانيا وغزة؟! هل سينحصر الصراع فيهما، من أجل الحفاظ على القطبية الواحدة، أم أن منطق هذا الصراع ينذر بشرارات حروب اخرى و بعضها مرجحة أن تشتعل في القارة الامريكية ذاتها.
وأمريكا تستند على عمودين، الناتو والدولار وكلاهما في خطر، بينما أوروبا أخذت تعي بشكل جلي أن لا ناقة لها و لا جمل، لا في الدولار ولا في الناتو، وعليها أن تبني أعمدتها الخاصة بها، وهي أعمدة اوروبية خالصة.
المفاجآت أضحت متوقعات!!! وعلى الذين يمسكون بنواصي الاقتصاد والسياسة والتكنولوجيا المدمرة مراجعة حساباتهم وأولوياتهم و يكبحوا جماح انانيتهم من أجل سلامتهم، وأنه لا ضمان لسلامتهم في معزل عن سلامة الآخرين، أي سلامة البشرية في كليتها الإنسانية.