ما للقلم ما إن يغطس برأسه في حوض من أحواض السباحة اللغوية، حتى تحلّ به محنة الأعشى والنواسي، في التداوي منها بها، فتتداعى المسائل. الموضوع المراد طرحه هو أن المناهج العربية في تعليم اللغة بوصلتها في ضلال بعيد. واضعوها لم يدركوا بعدُ أن قواعد النحو والصرف وفنون البلاغة، ليست هي صانعة الإحساس بجمال اللغة، ولا هي ضامنة سلامة اللسان وسحر البيان. هل يتوهّم عاقل أن شعراء المعلّقات لو وضعتهم في الخلاط وجمعتهم في واحد، يساوون صفراً إلى الشمال قياساً على أستاذيّة ابن جني في النحو، أو أبي علي الفارسي في الصرف، أو عبد القاهر الجرجاني في البلاغة؟
لم تطأ أقدام الجاهليين حضانةً ولا ابتدائيةً ولا ثانويةً ولا جامعةً، بل إن النحاة واللغويين وأهل الصناعة المعجميّة لا يستشهدون إلاّ بأشعار أولئك الأمّيين قبل الإسلام، لكون شعراء العصور الإسلامية ليسوا من «الثقات»، الذين يُروى عنهم ويُستنَد إلى أقوالهم، مع أن أبا الطيب كان صديقاً لصيقاً بأبي الفتح عثمان.
هذا لماذا كان القلم يقول ويعيد إن على خبراء أنظمة التربية والتعليم أن يبدأوا من السؤال الذي ينسف كل كسل ذهني في الابتكار التربوي: ألسنا كمن ينطلق من خط الاستواء نحو القطب الجنوبي، بينما هو يريد الذهاب إلى القطب الشمالي؟ أمامك طفلان أحدهما جاهلي لم يعرف مدرسةً أو مقرّراً دراسيّاً، ولكنه أفصح من الكثير من الأساتذة المحاضرين في كليات الآداب، والآخر يقضي في مراحل التعليم ستّ عشرة سنةً، وما فوقها، ولكنه لا يعود إلى قواعده سالماً.
لماذا أقام النحاة كل تلك الوعور والمتاهات؟ يُروى أن ابن جني قضى أربعين سنة في تعلم الصرف. مهزلة المهازل. حين نتحدث عمّا قبل ألف سنة، ونتندّر بأربعة عقود في تعلم الصرف، فإننا لا ندرك كوميديا أن يتعلم أبناؤنا وبناتنا لغتهم الأمّ ستة عشر عاماً من دون إجادة كتابة صفحة بلا أخطاء. تخيّل نفسك تروي هذا لشخص جاهلي، كيف سيردّ؟ سيلقي بكل كتب المناهج إلى حيث ألقت!
لزوم ما يلزم: النتيجة الإنقاذية: على المناهج العربية ألاّ تسعى إلى تطوير نفسها، وإنما إلى إنقاذ ماء وجهها. لقد تبخّر.