: آخر تحديث

البحر المتوسط.. بين الثورات والثروات

13
14
14
مواضيع ذات صلة

وضعت قيادة الجيش اللبناني فوق طاولة مجلس الوزراء دراسة تفصيلية موجزة، حول موجات النزوح السوري المتدفّقة بسبب الانهيار الاقتصادي هناك. بدا لبنان الرسمي والشعبي على هشاشة أوضاعه الداخلية عاجزاً عن إيجاد سياسة موحّدة تجاه تلك الظاهرة التي بدأت واستمرّت متقطعة لأسباب إنسانية منذ ال2011 باندلاع الحروب المتعددة الهويات في سوريا. وصلت إلى مليونين ونصف مليون نازح قبل الموجات الجديدة نحو بلدٍ ضامر ومربك سياسيّاً واقتصادياً واجتماعياً واللبنانيون بمعظمهم يحلمون بالنزوح والهروب من جحيمهم الفريد.
لنقُل ببساطة إنّ اللبنانيين والسوريين وبلدان شمالي إفريقيا وحتى القارة السمراء، ظواهر معاصرة مقلقة حيال كوارث الاستقرار أو نعمة الإبحار حين تتجهّز قوافل البواخر والقوارب لتعبر بهم نحو أوروبا أو نحو قعر البحر الهائج المتوسط. يمكن التفكير بعقل بارد، أنّ موجات «الثورات» العربية من تونس إلى دمشق خلّفت قلقاً أوروبيّاً لا من الأثقال الاقتصادية وإيواء التطرّف ولا لردود فعل شرائح المسلمين في دولهم وحسب، بل تجاه ارتداد جاذبيتهم الدينية التي راهن عليها الغرب بهدف التغيير السياسي وهي ترتدّ لاستحالات التغيير. كان الفكر منصبّاً عبر قرون على إمكانية اختراقهم بالأفكار الغربية لكنه سرعان ما تحوّل إلى نوع من السخط والإنكار والرفض والتهديد الذي نراه يقوى ويشتدّ ليُقلق عواصم أوروبا وخصوصاً إيطاليا وفرنسا مع تدفّق النازحين نحو الشمال.

 لنتذكّر معاً أنّ مصطلح «النهايات» راج مع الألفيّة الثالثة ليتّخذ القرن ال21 تسمية ألهبت الشهيّات هي قرن الدين. ما زالت المؤلفات والنظريات الواسعة الانتشار المبشّرة بانهيار الإيديولوجيات والأفكار اليسارية والثورية مقابل يقظة الأديان والمذاهب، وخصوصاً تلك التي استلهمت الفكر القومي إن لم نقل استوردته من الغرب واعتنقته بفجاجته وهي لم تكن انخرطت بعد في مقدّمات الثورات الصناعية والتقنية ومفاهيمها ومفاعيلها الحضارية.

 هكذا حلّ عصر العولمة ليأخذ الشعوب الطريّة لا نحو الذكاء الاصطناعي؛ بل إلى ما أسميه مقلوباً ب «صناعة الذكاء» دفناً لمعظم الأفكار والنظريات التراثية، حيث انتفت قدرات الأفراد والعائلات وسيادة الدول التقليدية تبشيراً بالسقوط النهائي للحدود والأنظمة المتخلّفة وحتّى للبشر بألوانهم وهوياتهم المتعددة وبانتماءاتهم الضيّقة. أورث هذا المناخ الاستهلاكي مسلوخاً من بقايا الفكر والنقاش تأثيراته الضخمة على مستقبل الأفراد وحتى الأوطان بشعوبها الموسومة بالتخلّف.

 وهنا ملاحظتان داعمتان:
1 - الأولى محورها التبشير والتنظير بانهيارات العديد من أنظمة الشرق الأوسط المطبوعة أبداً بالأحزاب القومية والدين في دساتيرها وثقافاتها، بصفتها مجتمعات نهائية غارقة في الاختلاط المعقّد والشائك بين السلطات الأسطورية والدينية والعقلية. قادت تلك المعضلات إلى ثقافات تبرير الفشل المزمن والإخفاق، وتقبّل الانهيارات والتشبّث بسلاح المؤامرات الخارجية وصولاً إلى الاستنتاجات القطعية التي أسقطت حاجات الشعوب وتطلعاتها الباحثة عن التغيير والتبديل. هكذا أفرزت وقائع «ثورات الربيع العربي» وأحداثها ونتائجها الكارثية إخفاقاتٍ لم ينتظرها كُثر من العرب والمسلمين. وبالرغم من التشظّيات الداخلية السياسية والمذهبية، سرعان ما تمّ رسم هذه الرغبات والحركات عبر حفر المجرى الخطير من العراق إلى تونس؛ فمصر وليبيا وسوريا ولبنان بالطبع وكأنّها ملامح لعصر منهك يأخذ وقائعه الاجتماعية البطيئة والمكلفة وتسميته في خانة «الفوضى الخلاّقة».

2- الثانية جاء التفكير والفكر المسكون بالتكفير مرسّخاً دعائمه أو تبريراته وشعبياته، من مقولات قديمة تتجدّد، محورها العلاقات المزمنة المعقّدة بين الغرب والشرق في قضايا العدالة والمساواة والاعتراف التي تمطّت عبر التاريخ نحو فكرة مستقبل القدس التي بلغت ذروتها مع الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان  بقوله: «حينما أتطلّع إلى نبوءاتكم في العهد القديم أجد نفسي متسائلاً عمّا إذا كنّا نحن مَن سيرى نهاية العالم والاختلاط الدولي والقاري واقعاً فعلاً... إنها نهاية تنطبق قطعاً على زماننا الحاضر». من يدقّق في لسان أوروبا وصحافتها، وخصوصاً إيطاليا وفرنسا المسكونتين بوطأة المهاجرين والنازحين، يقف يتيماً تائقاً لهجرة الفكر النهائي هناك من الأديان نحو الإنسان منذ نهايات الحرب العالمية الثانية.

 تتعاظم عبر هاتين الملاحظتين، فتتراجع المسافات والفروقات بين العديد من الدول المرشّحة أو الرافضة للتغيير في جهات العالم، مع أنّها تبدو غالباً محكومة بتوقها وأحلامها وتوقّعاتها أبداً في العودة نحو مجتمعات أحادية وهويات خاصة في الشرق والغرب. لأنّها في ردود أفعالها واختلاطها تبدو أسيرة المعتقدات والتباينات في المقدس والخير والشر وأنساق القيم والأعراف والحرية وردود الأفعال وأساليب الحياة المختلفة. هكذا تستمرّ التشظيات والحروب والثورات المستوردة كأدوات حياة موكولة بالرفض والتمرد والخرائب والهجرة والنزوح ليبقى البحر الأحمر المتوسط مشرّعاً للثروات و«الثورات» المستوردة.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.