: آخر تحديث

«نظام التفاهة» عبث بالحياة والحضارة

8
11
11
مواضيع ذات صلة

«الكتاب يعرف من عنوانه»، مثل شائع يستشف منه معدن الانسان بما توحي به سلوكياته ومظهره وكيفية تعامله مع الناس وكيف يرى نفسه بين الناس، ولا علاقة للكتاب بالمعنى المراد من المثل. رغم المراد الاصلي من المثل، إلا انه ينطبق كذلك على الكتاب نفسه، بظاهر المعنى المباشر. عنوان الكتاب، دون ايحاء، نعرف منه محتوى الكتاب، ولكن بعض عناوين الكتب تربك الناظر الى العنوان، وقد يبعده الارتباك عن فحوى الكتاب، إلّا اذا، من باب الفضول، فتح الكتاب.

وهذا ما حصل مني مع كتاب «نظام التفاهة». صفحة غلاف الكتاب لوحة بذاتها مرسوم عليها اسم المؤلف وهو د. آلان دونو، وعنوان الكتاب «نظام التفاهة» واسم المترجمة وهي د. مشاعل عبدالعزيز الهاجري، والنصف الاسفل من اللوحة صف من مشابك الغسيل بيضاء اللون يتوسطها مشبك أكبر أحمر اللون، ولا شك أن مصمم اللوحة أراد ان يحفز مَلَكَةَ الايحاء عند القارئ ليستشف فحوى الكتاب من اللوحة، وهذا أسلوب شائع في رسم صفحات أغلفة الكتب. يبدو أن ملكة الايحاء عندي ضعيفة، وقد أسعفني تعقيب على الكتاب وردني عبر الهاتف السحري (الموبايل)، ما جعلني أستعجل الخطى الى المكتبة لشراء الكتاب، وهو كتاب مهم، يستحق القراءة ولا بد من قراءته، أضعه في مصاف الكتب التي تسطع الضوء على قضايا عصرنا وتشخص أمراض الحضارة، امثال الكتب التنويرية التي صدرت وانتشرت بعد عصر النهضة، ولهذه الكتب دور محوري في تنوير الانسان في عصرنا عن القضايا المصيرية التي لا بد من تشخيصها ولفت الأنظار اليها واقتراح حلول لها.

دكتورة الحقوق مشاعل الهاجري، وهي استاذة في الحقوق الخاصة- جامعة الكويت، أضافت الى الترجمة تعليقًا موسعًا يعد كتابًا بجانب الكتاب المترجم، وهي من المنظور الحقوقي تسبر غور ما كان يصبو اليه دكتور الفلسفة والعلوم السياسية آلان دونو Alain Deneault، وهو استاذ في جامعة كيبيك - كندا، والدكتور ألان دونو له مؤلفات عديدة تعرض قضايا العصر ودراسات اخرى في الشأن السياسي. إن التعليق الموسع، الذي اضافته الدكتورة مشاعل الى كتاب الان دونو، كتابٌ بذاته يضاف الى الكتب التنويرية التي تستمد غذاءها الفكري وروحها الانساني من أفكار عصر النهضة.

مساهمة الدكتورة مشاعل الهاجري، في سبر غور الكتاب، لم ينحصر فقط في كتابها (التعليق) المضاف والمكمل، بجانب الترجمة، ولكنها أعطت الكتاب عنوانًا يعطي دلالة أعمق من العنوان الفرنسي الاصلي وهو La Médiocratie، والذي يعني، معجميًا، «السلطة التي بيد الناس العاديين، الاقل في متوسط الذكاء»، وهي سلطة تجمع الفنون والاقتصاد والعلوم والقانون والسياسة، أي الثقافة المجتمعية بكاملها. ترجمتها للعنوان، وهو «نظام التفاهة»، لم تكن حرفية، ولكنها استنبطت عنوان الترجمة من قراءتها العميقة للكتاب ومعرفتها ذهنية القارئ العربي واطلاعها الموسع على قضايا العصر اضافة الى ما تملكه من ثقافة انسانية راقية، اضافة الى التزامها بقضايا الانسان عامة.

الكتاب يعكس واقع الحال في هذا الزمان، عندما يرى كل انسان نفسه في غير موضعه حيث قيمة الخَبَثِ تعلو فوق قيمة الذهب.. او بتعبير ادق على قول الشاعر الروماني اوفيد قبل اكثر من 2000 عام «مضى الزمان الذي كان فيه قيمة الذهب أدنى من قيمة العبقرية» من ديوان قيثارة الحب، أي بعرف اليوم «مضى الزمان الذي كان فيه للفكر مكانة أعلى أمام قيمة المال».. الانسان ذو المكانة في موضع دوني المقام، وكراسي المقامات يتربع عليها من لا مكانة له.. وذو النور تغشاه الظلمة، ومن به ومنه سواد الظلام تُسْطَعُ عليه الأنوار، فلا النور بريق ولا الظلمة سواد، وترتبك عاكسات اللون وتعكس غير الوانها، فالعاهر طاهر، والطاهر يرتاب ويتوارى عن الانظار مخافة أن يُلْقَى في زاوية الذل او يوسمُ بالعهر..و حتى في ساحة الأدب، بعض من الادب قلة في الأدب وشعر من غير مشاعر وكتابات ليست سوى عروض للبيع على قارعة الورق، وكذلك الحال مع عالم الفنون.. إنه حقًا «عصر التفاهة». هذه كانت قراءة المترجمة للكتاب، وكانت محقة عندما أعطت الترجمة عنوان «نظام التفاهة»، لأننا أمام تشكيلة من الانظمة في الهيكل العام، ليس في دولة بعينها ولكن في العالم كله، وليس في ساحة السياسة فقط، ولكن في الاقتصاد وفي الإعلام وفي الصحة والتعليم، وكأننا حشد من اللامبالين نحشوا الطرقات والاماكن وكراسي القرار والبيوت بالتفاهات.

«نظام التفاهة» منذ غرس بذرته الاولى في أوائل القرن التاسع عشر، مع تطور الصناعة وتفكك الحرفة الى جزيئات وظيفية بسيطة لا تحتاج الى علم ولا مهارة، وانتعاش نظام اقتصادي همه الربح وتراكم راس المال، وهو ينمو بشكل مطرد الى ان وصل في منتصف القرن العشرين الى موقع التاثير على الفلسفة وإرباكها الى درجة الضياع. الفلسفة ساحة فكرية او مختبر فكري يشغله الانسان لفحص واختبار العينات الوجودية العصية على الفهم من ظواهرها، وتتعدد الفلسفات بتعدد المشتغلين في مختبراتها، وبالمختصر المفيد يمكن القول أن الفلسفات تتدرج بين اليأس والامل، او بين النظرة السلبية والنظرة الايجابية في الحياة. فهناك من يستسلم بعد الضياع والغرق، وهناك من يقاوم ويصمد ويتشبث بالحياة.

من المؤلم أكثر من أي شيءٍ آخر، هو أن الفلسفة، بمكانتها الرفيعة رفعة السمو في السماء وموضعها التنويري في الحضارات، قد خدشها هذا النظام التافه حتى أن مذهبًا قد تفرع منها برؤية عبثية لا تعير الحياة اية اهمية، وانه لا جدوى منها ولا جدية بالعمل تستحقها. أمام الفلسفة قضايا ومسائل وجودية ومصيرية ومعرفية بحتة عليها ان تعطي لها رؤية عقلانية، و«هل للحياة معنى؟» مسألة امام الفلسفة، والعبثية ترى أنه لا يهم أن يكون للحياة معنى، فالحياة عبث كلها، وجمالها في عبثيتها، والنظرة العبثية في الفلسفة يمينها فوضى (الفوضى الخلاقة) ووسطها يأس ويسارها انتحار. اليمين الفوضوي للرؤية العبثية تظهر في لبوس عديدة، وكلها على النقيض من القيم الانسانية وهي تلويث لمعنى الحياة، وهدر للموارد الطبيعية واستعباد للعمل واستهتار بالقيم الاخلاقية، والأبشع أن لها رَبًا تعبده، والبنوك معابدها، فتتجلى في ثوب مالي برّاق.. العبثية في ثوبها المالي الحديث تقيس قيمة الانسان بما يملك من حسابات المليون الى المليار صعودًا الى إضافات من الاصفار، والاصفار كثر الى ما لا نهاية، فتصبح الاصفار ثقلًا على المالك الى ان يهلك المالك، وتهلك الحياة معه وتبقى الاصفار، لأنه لا يهم أن يكون للحياة معنى طالما أن أصفار المال تتكدس!! وهذا هو نمط القيادة الغربية، بسلطتها الراسمالية، لحضارة العصر.. هكذا حال شعوب العالم اليوم بحضارتها مع عبثية «نظام التفاهة»، التي لا تعير الانسانية ولا الحضارة ولا الحياة أية أهمية.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد