يعزز الخطاب الثقافي العالمي المعاصر من "مأزق الهويات المحلية"، ويدفع بتلك الهويات إلى حافة "الذوبان" فيما بات يعرف بالثقافة العالمية التي تجعل من شعوب العالم متشابهين في أنماط الحياة وأساليب الإنتاج. منذ مطلع الألفية الثالثة وعندما بدأ خطاب العولمة يهيمن على أي حوار ثقافي آخر وجعل المفكرين يتخوفون على ثقافة "التنوع" التي ميزت البشر منذ فجر التاريخ، أصبحت الهوية المحلية تمر بمأزق شديد حتى اليوم. فهل يمثل التقارب الثقافي الذي قد يصل إلى حد التماهي بين الثقافات المختلفة، أمراً إيجابياً أم أن له مخاطر مستقبلية لم نتبينها بعد؟
رغم تراجع مصطلح "العولمة" وخفوت تأثيره، إلا أن التحول الثقافي نحو التماثل، الذي حدث خلال الربع قرن الأخير، استعاد الجدل حول "الغزو الثقافي" بصورة أو بأخرى، إذ لم يعد العالم يستطيع الاستغناء عن وسائل التواصل الاجتماعي التي جعلت الأفراد يتواصلون بشكل آني وكأنهم في غرفة واحدة. مثّل هذا تحدياً صارخاً لجميع الحوارات السابقة حول العودة للجذور والمحافظة على النقاء الثقافي، فهل يمكن أن نقول إن فكرة البحث عن الهوية وإمكانية تحقيقها وعكسها على الواقع أصبحت فكرة غير مجدية؟
ثمة اتفاق على أن مسألة "صراع الحضارات" التي قال بها "صامويل هنتنغتون" أصبحت جزءاً من التاريخ، فلم يعد هناك، كما يرى البعض، إلا ثقافة عالمية واحدة بدأت منذ أكثر من قرن وصارت تتشكل بسرعة في العقدين الأخيرين، ومن المتوقع أن تهيمن على جميع الثقافات المحلية وتلغيها في المستقبل القريب. معظم سكان الأرض يتشابهون في الملبس وفي نوعية الأطعمة وفي برامج العمل والإنتاج وفي الأنظمة المالية والاقتصادية والتصنيعية وفي أشكال المدن وعمارتها وفي مناهج التعليم وفي المنتجات الفنية وحتى الحرفية، الفروقات تتضاءل، وتتقلص معها الخصوصية الثقافية المحلية. يتذكر البعض ما حدث في النصف الأول من القرن التاسع عشر عندما اجتمع مجموعة من المصنعين الإنجليز وقرروا أن يعملوا على دراسة جميع الحرف اليدوية المهمة في العالم، ويقوموا بإعادة تصنيعها آلياً، ويسوقوها لشعوب العالم بسعر منخفض، وهو الأمر الذي أدى إلى تراجع دور تلك الحرف حتى أصبحت نادرة اليوم وغير مجدية لكثير من الحرفيين. ربما كانت تلك هي البدايات المدفوعة بنظام رأسمالي غربي يريد أن يهيمن على الأسواق ويفرض ثقافته على العالم، وفي اعتقادي أن هذا النهج المخطط له حقق نجاحات كبيرة حتى اليوم.
لا نستطيع أن نفصل الثقافة العالمية اليوم عن الفلسفة الرأسمالية التي ترغب في الامتداد إلى أسواق جديدة، لقد بدأت بالتصنيع وانتقلت إلى المحتوى الثقافي والفكري ساعدها في ذلك التطور التقني المتسارع، "الفرانشايز" و"العلامة التجارية" اللتان تعملان على تشكيل المحتوي الثقافي العالمي، هما ليستا مناهج تسويقية فقط، بل الأدوات التي وظفتها الثقافة المهيمنة من أجل "تسليع الثقافة" وربطتها بأنماط الحياة المعاصرة، فلم تستطع شعوب العالم التي تنتمي إلى الثقافة المهيمن عليها أن تتفلت من قبضتها. حتى تلك الشعوب التي حاولت المحافظة على خصوصيتها الثقافية لم تحقق نجاحات كبيرة، بل كل ما استطاعت أن تحافظ عليه هو جزئيات لا تشكل منظومة ثقافية متكاملة. يبدو هنا أن الطريق مسدود أمام أي محاولة للاستقلال الثقافي، فهل هذا يعني أنه لم يعد لدينا حيلة لتجاوز هذا المأزق الذي يجعل من تحقيق الهوية المحلية مجرد حلم أو هو فكرة يستحيل تحقيقها؟
يبدو أن "الاستقلال الثقافي" تحول إلى فكرة عاطفية أكثر منه منهجاً يمكن اتباعه وتحقيقه على أرض الواقع، فتحقيق الهوية ليس مجرد صور تذكرنا بالماضي أو فلكلور نعرضه للعالم، بل هو منهج كامل للحياة ومرتبط بشدة بوسائل الإنتاج والتصنيع. قد يقول البعض إن هناك دولاً صناعية كبرى مثل: الصين واليابان وكوريا، ولم تستطع أن تحقق الاستقلال الثقافي الكامل بل إن هويتها الثقافية مهجنة بشدة ولم تستطع أن تستقل عن الثقافة العالمية التي أسس لها الغرب ونقل خلالها أسلوب حياته ومناهجه الاقتصادية والعمرانية إلى العالم، وأنا أتفق معهم في هذا التساؤل، إذ يبدو أن أي محاولة للاستقلال الثقافي ستكون عبارة عن نموذج موازٍ لا يبتعد كثيراً عن النموذج الذي قدمه الغرب للعالم.
مفهوم الهوية الذي يطرحه الخطاب الثقافي السابق والذي يعني أن تكون مختلفاً عن الآخر وتعبر عن "الجينات الثقافية" التي تنتمي لها أصبح خطاباً نظرياً عاطفياً لا يدعمه تصاعد الثقافة العالمية كقوة تحمل بنية جوهرية قائمة على حاجات البشر المعاصرة ونظامهم الاقتصادي وطريقة معيشتهم وتقف وراءها مؤسسات عملاقة عابرة للثقافات وليس القارات فقط، لذلك لا أريد أن أكون متشائماً وأقول إن فرصة "الاستقلال الثقافي" لم تعد موجودة، لكن قد أطلب من القارئ العزيز كي يفكر في بعض الحلول، لكن بعيداً عن العاطفة والأحلام التي يصعب تحقيقها.

