: آخر تحديث

كلام غير طيّب لأبي الطيّب

24
29
27
مواضيع ذات صلة


قال القلم: ما رأيك في تغيير المذاق؟ ماذا تقول في قصيدة المتنبي «أرقٌ على أرقٍ ومثلي يأرقُ»؟ قلت: هي في عيون الكثير من الأدباء والنقاد، من عيون الشعر العربي. شاعرنا ترك في الظل عشرات الشعراء في عصره. استطراداً، نادراً ما عرف تاريخ أدبنا الفارق الخارق بين البلاغة والحكمة. السائد أن كل بلاغة حكمة. لكن ما خطبك وهذه الأبيات؟ هل من إيضاح وضّاح؟


قال: بيت المطلع قمّة، وبعده تبدأ سلسلة انحدارات. افتتاحية موسيقية رائعة كان في إمكان الإبداع أن يتوّج بها عملاً بديعاً. للأسف جاءت القصيدة إخفاقاً في الغزل وهو ليس بغزل ولا نسيب، بل إن فيه سوء تقدير للحب والحبيب. الصورة التي يصف بها العشق ترسم للمتنبّي شخصية كاريكاتورية تُظهره كصاحب شركة أو مصنع ينظر إلى مشروعه من خلال الجدوى الاقتصادية والعائدات والأرباح. نظرة عجيبة عند تطبيقها على الهوى والهيام: كم عليه أن يُنفق من الشوق والسهد واللوعة والطاقة التي تضيء جوانحه، خصوصاً إذا ارتفعت كلفة الصدود والهجران، وكم ستكون عائدات الاستثمار في الوصال، وأرباح الساعة بقرب الحبيب؟ فإذا كانت النفقات تتجاوز المردود بأضعاف فإن مشروع التنقيب عن الطاقة الغرامية خاسر سلفاً.

قلت هات برهانَك، ولا تُخسِر ميزانك. قال: المطلع رومانسي: «أرقٌ على أرقٍ ومثلي يأرقُ.. وجوًى يزيد وعبرةٌ تترقرقُ»، في البيت الثاني: «جهد الصبابة أن تكون كما أرى.. عينٌ مسهَّدةٌ وقلبٌ يخفقُ». إذا أردت الفتحة فالجَهد المشقّة، وإن أردت الضم فهو الطاقة، بلغة فيزياء عصرنا «الإجهاد» (سْتريس) كثافة القوة في نقطة معيّنة. التصوير مادّي وتوضيحي مدرسي: معاناة العشق أن تكون مثلي، ثم يقول: «وعذلتُ أهلَ العشق حتى ذقتهُ.. فعجبتُ كيف يموت من لا يعشقُ». هنا يصبح الحب سمّاً قاتلاً، وتكون النجاة من الموت بعدم الوقوع في الحب. ثمّ يتدنّى التعبير: «وعذرتُهم وعرفتُ ذنبي أنني.. عيّرتهم فلقيتُ فيه ما لقوا». أساء إليهم بتعييرهم فكان جزاؤه أن يتجرّع الحب!


ينتقل المتنبي إلى التمهيد للمدح، وهنا الزلّة الكبرى. كان الملوك يكرهون ذكر الموت والخراب في أشعار المديح. يقول: «أبني أبينا نحن أهل منازلٍ.. أبداً غراب البين فيها ينعقُ.. أين الأكاسرة الجبابرة الأُلى.. كنزوا الكنوز فما بقينَ ولا بقوا... والموت آتٍ والنفوس نفائسٌ.. والمستغرُّ بما لديه الأحمقُ». أهكذا يكون التمهيد؟ تأمل الآن المدخل إلى المدح: «أمّا بنو أوس بن معن بن الرضا.. فأعزُّ من تُحْدى إليه الأينقُ» (جمع ناقة). «أمّا» ثقيلة وزنها طن.

لزوم ما يلزم: النتيجة العطفية: في «ما لنا كلّنا جَوٍ يا رسولُ»، جدوى اقتصادية أخرى: «زوّدينا من حسن وجهكِ ما دامَ فحسنُ الوجوه حالٌ تحولُ»، ما يذكّرك بعبارة «حتى نفاد الكمية»، زوّدينا ببضاعة جمالك فإن صلاحيته ستنتهي!


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد