: آخر تحديث

الغزوات بين الصواب والخطأ

27
28
27
مواضيع ذات صلة

الإنسان منذ أن وعى ذاته والغزوات تفعل فيه فعلها، وقلة قليلة من الناس تُفَعِّلُها، وهذه القلة القليلة ترى نفسها درجات فوق البشر ودرجة واحدة أدنى من سلطة السماء، وهذا يسترجع من الذاكرة المدلول من بناء برج بابل.. ويبدو الى اليوم أن الغزوات أصبحت حالة بيئية إنسانية يقتضي من الإنسان التكيّف معها حتى لا ينقرض، بالرغم من أن تصاعد وتيرة ومعدلات ونوعية الغزوات هو بحد ذاته انزلاق الى الانقراض. منذ أول سيف في التاريخ الى حاضر اليوم النووي والغزو بمدلول نهب حقوق الآخرين نوعان، نوع داخلي وآخر خارجي، ومن الصعب تحديد فارق او قياس الأثر بينهما، إذ أنه يتأرجح بين الكمي والنوعي.. الداخلي تآكل شعبي اجتماعي، والخارجي تآكل إنساني عالمي، وكلا النوعين تآكل الإنسان بذاته لذاته، وهناك علاقة جدلية بين النوعين، وكل منهما يصب في مجرى الآخر. الشائع في المدونات وفي الأذهان هو الغزو الخارجي؛ لأنه مكشوف أمام شعوب العالم، بينما الداخلي مفضوح داخليًا ولكنه شبه مستور أمام شعوب العالم.

منذ أول حربين في التاريخ على مستوى العالم، والحروب تتوالى والغزوات تغري أقطاب العالم، وأهم تلك الحروب هي الحرب الكورية والفيتنامية وغزو أفغانستان وحروب وغزوات داخل القارة الجديدة (قارة الهنود الحمر) وآخرها العراق. تتناول الأقلام ووسائل الإعلام تلك الحروب بالوصف والبحث والنقد والهجوم والترحيب والتساؤلات والشكوك، وما هي إلّا كتلة من حَمْوِ التناقضات التي تعكسها تلك الحروب والغزوات.. حروب السلاح تفتح أبوابًا لحروب القلم والإعلام، وهذا التفاعل بين الجانبين هو لُبُّ الطبيعة الإنسانية، إذ أن لكل عنصر في حرب القلم والإعلام ليلاه التي يتغنى بها ويتودد اليها ويتلمظ لتذوق ثمارها.

بالنسبة للحروب والغزوات رغم أهميتها على المستوى العالمي بعمقه الإنساني وبعده الأخلاقي، إلاّ أن غزو العراق له أهمية خاصة بالنسبة للشعوب العربية وشعوب الخليج بالأخص، ومازالت أبواب هذا الغزو مفتوحة على مصراعيها أمام القلم والإعلام العربي، لأن آثارها المدمرة وتبعاتها الكارثية مازالت جروحها العميقة تؤلم الشعب العراقي وتقض مضجعه، ومع معاناة الشعب العراقي تعيش الشعوب العربية حالة من المعانات العميقة تعاطفًا وتضامنًا مع الشعب العراقي وتوجسًا مما قد تحمله الأيام لها على ظهر الغيب. الأقلام التي تطرح الأسئلة والتساؤلات هي الأكثر تحفيزًا للفضول المعرفي والمحركة لعجلة التفكير، بعيدًا عن العواطف والانفعالات، ومن الأسئلة البديهية، ورغم البداهة فهي مهمة، سؤال عن الصواب والخطأ، كان عنوان أحد المقالات: «غزو العراق هل كان خطأً؟». في علم اللسانيات للكلمة معنى وعدد من الدلالات، بينما السؤال يتخطى المعنى المباشر لأنه محاط بدلالات متناقضة، وخاصة اذا كان السؤال يتناول قضايا الحرب والسلم. الحرب والسلم وبينهما عمليات الغزو لا يمكن، وليس من المجدي، طرح الأسئلة المباشرة والمغلقة مثل إن كان الغزو صوابًا او خطأً، او أن الحرب الدائرة بين دولة وأخرى صواب او خطأ، لأن الغزوات والحروب هي عمليات متناقضة بحد ذاتها، والنظر اليها كذلك يكون متناقضًا حسب تموضع المصالح بين أطراف النزاع.. عندما يتم اتخاذ قرار الحرب او الغزو، فإن القرار حَدِّيٌّ لا رجعة عنه، وهو يجمع بين الاقتصاد والسياسة والعسكرية والإنسانية، والجواب على أي سؤال عنه، بأية صيغة كان، يتشعب مع ما يحمله القرار من أمور، ومدى أهمية القرار بالنسبة للاستراتيجية العامة الكبيرة التي تعتبر المرجع العملي للقرارات التنفيذية على الساحة الدولية او الإقليمية، وقرارات الغزو مهما كانت آثارها كارثية فانها تحتمي بالمبررات التي تتضمنها الاستراتيجية، وهي المرجع الأعلى الذي يرقى الى قدسية الحرمة من الشك ومن النقد.

السؤال المغلق: «هل كان غزو العراق (مثلًا) صوابًا او خطأً؟»، فإن الجواب يفكك السؤال الى سؤالين وهما: «الصواب بأي معنى؟ والخطأ بأي معني؟».. سياسيًا كان القرار غزوًا، واقتصاديًا كان القرار نهبًا، وعسكريًا كان القرار قتلًا جماعيًا وتدميرًا وحرقًا، وإنسانيًا كان القرار جريمة، والقرار من جانبه الأهم كان تلبية وظيفية لاستراتيجية كبيرة.. إذًا أين واقعية، او بصيغة أدق، مغزى السؤال بين الصواب والخطأ؟.

الغزو قرار مبني على استراتيجية تلبي طموحات محمولة على ظهر رؤية، وهو، أي قرار الغزو، بهذا البعد الاستراتيجي والرؤية التي تتلألأ بطموحات مغرية لا يقاس بمعيار الصواب والخطأ، بل بمطلق الأهمية.. وهذا ينقلنا الى نوع السؤال الملائم والذي يلبي أهداف الرؤية ويتلاءم مع القرار الاستراتيجي، وهو مدى أهمية القرار. الأهمية في قرار الغزو أقرب الى المطلق من نسبية القياس بين الصواب والخطأ، مما يعني أن قرار الغزو، وبغض النظر عن الصواب والخطأ، يتسم بأهمية لا يمكن ولا يجب الإفراط بها، أما الصواب والخطأ فهذا أمر طبيعي ومتوقع على دروب العمل، ولا يمس أهمية القرار، ولكن الخطأ وإن حصل فهو مقبول لأنه درس لقرارات لاحقة، والاستراتيجيات تتعلم من قراراتها، وهكذا يكون للخطأ جدواه الاستراتيجي. يخطئ من يظن او يدفعه التفكير الى أن تراكم الخطأ في الغزوات سوف يكون درسًا ومن ثم دافعًا الى التوقف عن الحروب والغزوات، لأن الأخطاء كانت دروسًا لتطوير وتحسين وسائل وأدوات وخطط الغزو والحرب.

الغزو وظيفة لتحقيق طموحات الرؤية، مثل اللص المدني الذي يعيش على النهب المتواضع، وبالنسبة له النهب وظيفة، وحتى لو فشل مرة وقبض عليه وحكم عليه بالسجن، فبعد خروجه من السجن يواصل وظيفته التي يستعيش عليها ومنها.. إذًا السطو على ممتلكات الآخرين، بالنسبة للص المدني ونهب الشعوب بالنسبة للإمبراطوريات، يتميز ويتسم بأهمية وظيفية، والوظيفة لها سيكولوجيتها الخاصة. سيكولوجية الوظيفة مجال واسع عميق يتحسس تأثير طبيعة الوظيفة على سلوك الإنسان، وكيف أن هذه الطبيعة التي يتميز بها نوع الوظيفة تؤثر في سيكولوجية الفرد وتغير سلوكه من نمط الى نمط مغاير او حتى مناقض للنمط السابق على تولي الوظيفة.

لا يخفى على الإنسان، بأحاسيس التاريخ ونبض الحاضر وبصيرة المستقبل، أن جميع الغزوات، التي حصلت في الماضي والتي نعاني منها في الحاضر والتي ستحدث في المستقبل، هي من أجل نهب خيرات الآخرين، أي انه لا فرق، من حيث نفسية النية، بين امبراطورية عظيمة غازية تسطو على الدول وتنهب الشعوب، ولص مسكين غزواته متواضعة لا تعدو السطو على البيوت او المخازن وسرقة أصحاب البيوت.. الغزو الإمبراطوري والسطو الفردي كلاهما في عرف الوظيفة والقرار نهب، وفي عرف الأخلاق جريمة.. الفرق بين الجريمتين، أن النهب الامبراطوري جريمة ضد الإنسانية، بينما سرقة بيت جريمة مدنية.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد