كما هو معروف، أقدم الرئيس الصيني السيد «شي جينبينغ» في عام 2013 على إطلاق ما يعرف بمبادرة الحزام والطريق المعروفة اختصارًا بـ BRI، وهي عبارة عن استراتيجية طموحة طويلة الأجل هدفها تعزيز مكانة ونفوذ العملاق الصيني من خلال تزويد دول المنطقة بالمساعدات والمعونات والاستثمار في البنى التحتية من طرق وموانئ وجسور ومنشآت ومحطات طاقة واتصالات وغيرها.
وكما هو معروف أيضا أن الكثير من الدول رحبت بالمبادرة وأشادت بها وفتحت أذرعها مرحبة ومتفائلة بما سينجم عن المبادرة من خيرات ستعود بالنفع عليها وعلى مواطنينها اقتصاديًا ومعيشيًا. وكان من بين الدول المرحبة بلدان منظومة آسيان الجنوب شرق آسيوية، على الرغم من ارتباط بعضها بشراكات استراتيجية واقتصادية مع الولايات المتحدة الأمريكية، الخصم الأبرز للإستراتيجيات الصينية، آسيويًا وعالميًا.
دولة واحدة من أعضاء آسيان، هي فيتنام، شذت عن شريكاتها، متخذة جانب التحوط والحذر من المبادرة، لكن دون إبداء معارضة صريحة ربما تجنبًا للمواجهة مع العملاق الصيني التي قد يخسرها بعض المزايا والمكاسب التجارية. ولا يحتاج المرء إلى كبير عناء ليعرف خلفيات هكذا موقف من جانب أصحاب القرار في هانوي. إذ يكفي أن نعرف أن علاقات فيتنام مع الصين، منذ ما بعد إعادة توحيد الأولى بفترة وجيزة، ليس على ما يرام، بل أن البلدين تواجها عسكريًا في عام 1979 على إثر اجتياح قوات الجيش الأحمر الصيني لمساحات شاسعة من الأراضي الفيتنامية ردًا على غزو فيتنام لكمبوديا سنة 1978 من أجل انهاء حكم نظام الخمير الحمر الذي كانت بكين تدعمه. ولعل ما يوتر علاقاتهما البينية اليوم هو النزاع الاقليمي في بحر الصين الجنوبي، خصوصا بعد تبادلهما الاتهامات في مايو 2014 حول حادثة غرق سفينة فيتنامية بعد اصطدامها بأخرى صينية بالقرب من منصة نفط أقامتها الصين في مياه متنازع عليها.
ومذاك أصبحت فيتنام حذرة من الاعتماد اقتصاديًا على الصين، وبدأت عملية ذكية وممنهجة للتصالح والتعاون الواسع مع عدوتها الأمريكية اللدودة السابقة. غير أن هذا لم يمنعها من استقبال أحد استثمارات مبادرة الحزام والطريق الصينية سنة 2008، الذي تجسد في بناء خط ترام «كات لينه ــ ها دونغ» والذي كان مقررًا الانتهاء منه في عام 2016، لكنه تعثر بسبب احتجاجات شعبية ضده، إلى أن تمّ الانتهاء منه عام 2021 بتكلفة مضاعفة (ارتفعت تكلفة المشروع فجأة من 553 مليون دولار سنة 2008 إلى نحو 11 مليار دولار سنة 2018 لأسباب كثيرة).
وبسبب الملابسات التي أحاطت بالمشروع المذكور، ثم بسبب توتر الأجواء في بحر الصيني الجنوبي والمخاوف ذات الصلة بالأمن القومي للبلاد، معطوفًا على ما تردد حول «فخ الديون»، بدأت حكومة هانوي تنفيذ سياسة قوامها النأي بالنفس عن مبادرة الحزام والطريق، بدليل أنها رفضت التمويل الصيني لطريق سريع يصل ما بين هانوي ومنطقة «مونغ كاي» القريبة من الحدود الصينية، والتي كان من المقرر أن تصبح منطقة اقتصادية متخصصة سنة 2018.
وبالمثل ولذات الأسباب، ألغت هانوي استثمارًا صينيًا لمد خط حديدي بين شمال البلاد وجنوبها لربط أكبر مدينتين من مدنها. كما رفضت مشاركة شركة هاواوي الصينية في تطوير البنية التحتية للاتصالات في البلاد، بعد أن تلقت ــ حسب ما قيل ــ تهديدا من واشنطون، وراحت تسعى إلى تطوير نموذج للجيل الخامس من الاتصالات (G5) خاص بها.
في الوقت نفسه، وكبديل عن مساعدات واستثمارات العملاق الصيني، راحت هانوي تنوع علاقاتها وتعززها مع القوى العالمية والإقليمية الأخرى، ولاسيما تلك التي تتخذ موقفًا منددًا من سياسات واستراتيجيات الصين في بحر الصين الجنوبي، وفي مقدمتها بطبيعة الحال اليابان. ومن هنا لوحظ أنه منذ عام 2014 قامت هانوي وطوكيو بجهود مشتركة متواصلة للإرتقاء بعلاقاتهما الثنائية إلى مستوى شراكة استراتيجية واسعة النطاق تقوم على جملة من المباديء المشتركة على رأسها السلام والرخاء والإزدهار. وعليه استقبلت فيتنام مذاك استثمارات يابانية كبيرة اتجهت معظمها نحو تطوير البنية التحتية الفيتنامية، ما جعل هذه البلاد بفعل هذه الاستثمارات وبفعل عوامل أخرى، واحدة من أسرع دول جنوب شرق آسيا نموًا وأكثرها استقرارًا.
ومن ناحية أخرى شرعت هانوي بترسيخ وتعزيز روابطها الثنائية الاقتصادية والدفاعية مع الولايات المتحدة، بما في ذلك الانخراط كشريك في استراتيجيات واشنطن الأمنية الخاصة بالمحيطين الهندي والهادئ من تلك التي تسعى إلى تحجيم تعاظم نفوذ العملاق الصيني.
وجملة القول إن هانوي خطت لنفسها موقفا مستقلا من مبادرة الحزام والطريق، ومناقضًا تمامًا لموقف اثنتين على الأقل من شريكاتها في منظومة آسيان، هما كمبوديا وميانمار اللتين تعتبران اليوم من أكثر دول جنوب شرق آسيا انخراطًا في المبادرة الصينية وبالتالي من أكبرها لجهة تلقي الدعم من الصين.