: آخر تحديث

كيف توحدت أوروبا

17
17
19
مواضيع ذات صلة

ليس صحيحاً أن رؤساء وقادة الدول الأوروبية اجتمعوا وقرروا إقامة الاتحاد بين دولهم فقام الاتحاد. قليلون جداً من القادة والمفكرين الأوروبيين كانوا يعتقدون بإمكانية قيام الاتحاد الأوروبي. في عام 1713 عندما طرح الفكرةَ رئيسُ أساقفة سانت بيار في فرنسا علَّق الفيلسوف الفرنسي الشهير فولتير على ذلك بقوله: «إن السلام لن يتحقق بين الفيلة وفراس النهر، بين الثعالب والكلاب.. إن الحيوانات المتوحشة (التي تعيش على اللحوم) سوف تعمل دائماً على تمزيق بعضها البعض وتقطيع جثثها لدى أول فرصة تتوفر أمامها».
وتناول المثقفون الأوروبيون فكرةَ الاتحاد بتهكم كبير، فالفيلسوف «كانط» شكك فيها من حيث المبدأ، ووصفها «روسو» بالسذاجة، وبتهكم شديد قال عنها الإمبراطور البروسي (الألماني) «فريديريك الثاني» إنها فكرة عملية.. إلا أن كل ما تحتاج إليه حتى تنجح هو موافقة جميع أوروبا!
الآن، وبعد مرور ثلاثة قرون، أثبت الاتحاد الأوروبي أنه حقيقة سياسية اقتصادية قائمة. والمقارنة بين حالة الاتحاد اليوم والصورة التي رسمها له رئيس أساقفة سانت بيار تكاد تكون متماثلة. غير أن تلك الصورة مغيبة تماماً اليوم، ليس في المؤسسات السياسية الأوروبية فقط، وإنما في المؤسسات الثقافية أيضاً.
لقد طُرحت فكرة الاتحاد بين الدول الأوروبية قبل نصف قرن تقريباً من طرد الإنجليز من الولايات المتحدة الأميركية، وقبل عقود من انفجار الثورة الفرنسية وقبلها الثورة الإنجليزية.
مرّت ثلاثة قرون من الحروب بين الأوروبيين سقط ضحيتها ملايين الجنود المقاتلين والمدنيين الأبرياء، قبل أن تأخذ أوروبا فكرةَ رئيس أساقفة سانت بيار مأخذاً جدياً للخلاص من الحروب الدموية ومن الصراعات العبثية. كان طريق الخلاص معبَّداً باحترام القانون، وبفرضه على أعضاء الاتحاد من ألمانيا بكل قوتها الاقتصادية وحجمها الجغرافي والبشري، إلى مالطا الجزيرة الصغيرة في جنوب المتوسط. إن كل الدول الأعضاء في الاتحاد تخضع اليوم لمحكمة عدل واحدة، وتطبّق قوانين مشتركة موحدة.
كان مشروع سان بيار يؤكد على أن سيادة أي دولة تعني عدم الخوف من الدولة المجاورة، لأن عدم الاستقرار يجعل من الاستقلال وهماً. وهو المنطق الذي يعتمده الاتحاد الأوروبي حالياً.
أرسى سانت بيار مبدأً يقول إن التضحية بالسيادة هي أحياناً حماية للسيادة. وهذا ما يفسر صلاحيات الاتحاد الأوروبي الواسعة التي تشكو منها بعض الدول الأعضاء، والتي كانت وراء انسحاب بريطانيا، وكانت وراء شكاوى دول عديدة أخرى في شرق أوروبا مثل بولندا وتشيكيا وهنغاريا.
كان «روسو» يعتقد أن فكرة سانت بيار الأوروبية لا يمكن تحقيقها إلا بالقوة. وهذا ما حدث فعلاً، إذ أن أوروبا خاضت قبل الوحدة حربين عالميتين قبل أن تتخلى عن معارضتها للاتحاد. وفي الوقت الحاضر تنفجر من وقت لآخر أزمات بين بعض الدول الأوروبية، لكن الاتحاد يبقى صامداً. وبصموده يكون قد فرض أمراً واقعاً يشكل سقفاً لا يمكن لأي دولة تجاوزه. فالاتحاد صنع «تضامناً» واقعياً بين الدول الأوروبية لم تعرفه من قبل. أثبتت ذلك المواجهةُ المشتركةُ اقتصادياً لما بعد وباء كورونا، وأثبته عسكرياً وسياسياً الموقف الموحّد من حرب أوكرانيا.
جرت محاولات لربط تاريخ الاتحاد الأوروبي بالدروس والعبر التي تعلّمها الأوروبيون ودفعوا ثمنَها أثناء وبعد الحرب العالمية الثانية، فالمحاولات التوحيدية بالقوة العسكرية، سواء تلك التي قام بها نابليون بونابرت ومن بعده هتلر، عادت على الأوروبيين بالويل والكوارث، وبمزيد من العداوات والانشقاقات.
واليوم ترفع دولُ الاتحاد الأوروبي شعارَ الديمقراطية وحكم القانون كمبدأ لممارسة السلطة وكأساس للحياة السياسية. غير أن مسيرة أوروبا نحو الديمقراطية مرت بمراحل مظلمة وظالمة أيضاً عندما اعتمدت أنظمة توتولارية (إيطاليا في عهد موسوليني وألمانيا في عهد هتلر)، إضافة إلى الاستعمار في آسيا وأفريقيا وأميركا الجنوبية.
لا تريد أوروبا اليوم استذكار تلك الحقبة من تاريخها بوجهيها: الصراعات الداخلية (الحروب الفرنسية الألمانية، والحروب الإنجليزية الإسبانية..)، والاستعمارات الخارجية (فرنسا في الجزائر وبلجيكا في الكونغو وبريطانيا في الهند والشرق الأوسط).. وهي نادراً ما تستذكر أيضاً مشروع سانت بيار.. الذي ما كانت لتكون متحدةً إلا به!


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد