: آخر تحديث

صالح المزيني.. أول مواطن خليجي يترأس قناة تلفزيونية

21
32
20
مواضيع ذات صلة

دخل صالح علي سليمان إبراهيم المزيني تاريخ الإعلام المرئي من حيث لم يخطط أو يخطر على باله. فهذا العصامي الذي ولد وبدأ يتلمس الطريق في مدينة بريدة القصيمية بأواسط نجد في عام 1933م، ابنًا لعائلة متوسطة الحال تنتسب إلى فخذ السرابتة من بني سالم من قبيلة مزينة من حرب، صار بعد أن كبر وتعلم اسمًا يُشار إليه بالبنان كونه ترأس أول صرح إعلامي مرئي ناطق بالعربية في منطقة الخليج والجزيرة العربية بعد سنوات قليلة من إطلاق بثه في السادس عشر من سبتمبر 1957، والإشارة هنا ـ بطبيعة الحال ـ إلى محطة تلفزيون أرامكو من الظهران التي تعد ثاني قناة تلفزيونية عربية من بعد محطة تلفزيون بغداد التي بدأت البث في عام 1956.

 طبقًا لما نشره علامة الجزيرة الشيخ حمد الجاسر في مجلة العرب (عدد فبراير/‏مارس 1983)، فإن أسرة المزيني المنتشرة في مناطق حائل والقصيم والمجمعة والرياض والحجاز والمنطقة الشرقية من السعودية، علاوة على دولة الكويت يرجع جدها «عبدالله بن نايف بن ضيف الله بن غازي بن محسن السرباتي بن مسعود المزيني» إلى قبيلة مزينة التي يعود نسبها إلى بني مسعود من حرب، وأن هذا الجد أصيب أثناء إحدى الغارات، فبقي طريحا تحت العلاج في بلدة الكهفة بأطراف القصيم الشمالية التابعة الآن من الناحية الإدارية لمنطقة حائل، فلما شفي تزوج إحدى الفتيات التي عرفها أثناء العلاج وكانت من أسرة غير معروفة. وأضاف الجاسر أن «من هذا الرجل نشأت الأسرة المزينية، وبالتالي فهي ذات أصول صحيحة». وقد أكد هذا الشيخ عبدالرحمن بن عبدالله بن حمود التويجري في الصفحة 188 من كتابه الموسوم «الإفادات عن ما في تراجم علماء نجد لابن بسام من التنبيهات» الصادر عام 1411 للهجرة حينما قال إن المزينة هم من مزينة حرب. وبالمثل أفاد الشيخ شلاح بن محمد بن نحيت، أحد أمراء قبيلة مزينة في العصر الحاضر من الذين يقيمون حاليًا في مدينة الفوارة بمنطقة القصيم «أنه من الثابت المعروف لدينا أن المزيني ينتمون أصلاً إلى السرابتة من بني مسعود من مزينة، ومزينة بطن من المراوحة من بني سالم من حرب». (كان هذا نقلاً عما كتبه حمود بن عبدالعزيز بن ناصر المزيني في أحد المواقع الإلكترونية، توضيحًا لنسب عائلته).

ومن المصادر الأخرى التي تحدثت عن نسبهم كتاب «قبيلة مزينة في الجاهلية والإسلام» للأستاذ مساعد البهيمة المزني من أهل المدينة المنورة، وهو كتاب يتحدث عن تاريخ هذه القبيلة وفروعها وأفخاذها وأسرها في الوقت الحاضر. وفي الكويت أصدر الدكتور أحمد بن عبدالعزيز المزيني في عام 1994 كتابًا عن دار السلاسل الكويتية للنشر وضع فيه نبذة وافية عن نسب أسرة المزيني التي كثر عددها في الوقت الحاضر وباتت منتشرة في منطقة الخليج والجزيرة، وأنجبت العديد من الشخصيات المعروفة ورجالات الأعمال والإدارة والقضاء والتربية والأدب والشعر. (المصدر السابق).

وبالعودة إلى الأستاذ صالح بن علي المزيني (محور هذه المادة) نجد أنه تعلم في كتاتيب بريدة التقليدية ثم في مدرستها الابتدائية الوحيدة آنذاك التي كانت تعرف بالمدرسة الأميرية. وربما بسبب عشقه لنيل تعليم أجود في بيئة أفضل، أو بسبب تردد والده على الحجاز للتجارة، انتقل إلى مكة المكرمة التي أنهى بها مرحلتي تعليمه الإعدادي فالثانوي. وبتخرجه من المرحلة الأخيرة وجد أبواب الوظيفة مشرعة أمامه، لكن وظائف تلك الأيام لخريجي الثانوية من أمثاله لم تكن سوى العمل مدرسًا في مدارس وزارة المعارف السعودية، خصوصا مع ما كان للمدرس آنذاك من هيبة ومكانة اجتماعية ومستوى معيشي لائق، قبل أن تنحسر وتبهت تلك الهيبة والمكانة تدريجيًا.

عمل المزيني في التدريس لبعض الوقت، لكن يبدو أن طموحه الشخصي كان أكبر من أن يظل موظفًا في سلك التدريس، فانتقل في مطلع الخمسينات من وزارة المعارف للعمل مع وزارة الدفاع السعودية التي عينته في سلاح الجو بقاعدة الظهران الحربية، حيث شغل وظيفة مدير مكتب قائد القاعدة. شكّل هذا الحدث نقلة نوعية في حياته. ذلك أن الانتقال إلى الظهران المختلفة آنذاك عن بقية مناطق المملكة العربية السعودية لجهة كثرة الفرص الوظيفية وجودة التعليم ومستوى الحياة الاجتماعية وسط مؤثرات صناعة النفط الناشئة وفي خضم عملية التنمية والتحديث والعصرنة، لعب دورًا كبيرًا في مسيرته التالية.

في عام 1959م استقال المزيني من وزارة الدفاع وانتقل للعمل لدى شركة الزيت العربية الأمريكية (أرامكو) بمقرها الرئيسي في الظهران. وهناك اتيحت له فرص تعلم أشياء جديدة كثيرة ومثيرة حولته في غضون فترة قصيرة إلى شخصية آسرة ومختلفة علما وسلوكا وشغفا وطموحا وعلاقات وخبرة. وكان قبل ذلك بنحو ثلاث سنوات قد تعرف إبان عمله في قاعدة الظهران على زميله «علي حسين الفداغ»، أحد أبناء بلدة الغاط النجدية ممن هاجرت أسرهم من نجد إلى الزبير هربا من القحط في الأزمان السالفة، فتوثقت علاقته به إلى درجة أنْ طلب منه تزويجه أخته المقيمة في الزبير. وهكذا رحل المزيني في عام 1956م وهو في الثالثة والعشرين إلى العراق، حيث اقترن هناك بالسيدة «مريم حسين الفداغ» ذات التسعة عشر ربيعا التي ستصبح أم أبنائه الأربعة، وعاد بها إلى الظهران.

بدأ المزيني عمله الجديد مع أرامكو في سبتمبر 1959م موظفًا في قسم الشؤون العامة والخدمات التابع لدائرة العلاقات العامة، حيث تشبع بأجواء العمل الحديثة وأنظمتها الصارمة وأسّس علاقات جيدة مع رؤسائه ومرؤوسيه الأجانب والعرب ممن كانوا يقومون بمختلف الوظائف الإدارية، وصمّم أن يرتقي بنفسه من خلال العمل الجاد والانكباب على التعليم والتدريب المتواصلين، وهو ما لفت أنظار رؤسائه إليه سريعًا، فأمطروه بالترقيات المستحقة المتتالية حتى صارت عبارة «من كبار موظفي أرامكو» لازمة لاسمه، خصوصًا بعد تعيينه في تلك الفترة من حياته مشرفًا على نشرة قافلة الزيت الأسبوعية المخصصة لسرد آخر أخبار موظفي شركة أرامكو من ناحية ترقياتهم وأسفارهم وفعالياتهم، إلى جانب أخبار صناعة الزيت وتحولاتها واكتشافاتها الجديدة.

في عام 1963م ابتعثته أرامكو، الحريصة وقتذاك على خلق طبقة من الموظفين السعوديين المؤهلين والمدربين، إلى بيروت في منحة تعليمية على نفقتها للدراسة في الجامعة الامريكية لمدة سنة واحدة. وقد جاء في خبر عن سفره نشرته نشرة قافلة الزيت الأسبوعية أن المزيني «سيدرس اثناء التحاقه بالجامعة الامريكية ببيروت الادب العربي والانجليزي، كما سيتلقى دروسا نظرية وعملية في فن الصحافة، إذ أنه سيخصص بضع ساعات كل يوم لمزاولة الاعمال الصحفية في بعض دور الصحافة اللبنانية».

ولم يمضِ سوى وقت قصير بعد عودته من بيروت، إلا وجهة عمله تبتعثه إلى الخارج مجددًا، لكن هذه المرة إلى جامعة تكساس بالولايات المتحدة الأمريكية ليبدأ فيها كورسات دراسية خاصة بإدارة التلفزيون والإنتاج البرامجي وفنون الاتصالات، تتخللها دروسًا عملية لمدة أربعة أشهر مع محطة راديو وتلفزيون «KLRN» بمدينة اوستن في فنون إنتاج وإخراج الأخبار، وذلك تحت إشراف جامعة تكساس، علمًا بأنه أنهى رحلته التعليمية هذه بنجاح وعاد إلى وطنه في مارس 1964م. والمؤكد أن أرامكو لم تدعه يواصل الدراسة في جامعته اللبنانية آنذاك وقررت أرساله إلى تكساس إلا لأن الكليات الخاصة بعلوم التلفزيون لم تكن متوفرة آنذاك في لبنان الذي لم يعرف البث التلفزيوني إلا في فترة لاحقة لبث تلفزيون أرامكو.

وإبان عمله في أرامكو تقلب المزيني في وظائف مختلفة وسط تقدير زملائه له في مختلف المواقع. فإلى جانب ما ذكرناه آنفا تم تعيينه كممثل لإدارة العلاقات العامة التابعة لأرامكو في العاصمة الرياض، وشغل وظيفة محرر ثم مشرف على نشرة قافلة الزيت الأسبوعية. غير أن المنصب الأبرز التي تولاه بدأ بعد عودته المظفرة من الولايات المتحدة، حيث صدر قرار من أرامكو بترقيته بدءًا من أكتوبر عام 1964م من منصب نائب رئيس قسم التلفزيون والراديو في إدارة العلاقات العامة للشركة إلى منصب رئيس لذات القسم خلفا للأمريكي «جي. في. فلرتون» الذي تم نقله إلى مركز إدارة العلاقات العامة، مع تعيين سامي قبيسي مساعدًا للمزيني. وبصفته تلك شمر الرجل عن سواعده ليدير «محطة تلفزيون الموجة رقم 2 من الظهران» بروح المخرج والمنتج والمذيع والإداري والخبير الإعلامي المكتسب لخبرات ثرية من دروسه النظرية والعملية في لبنان والولايات المتحدة الأمريكية، فحقق النجاج تلو النجاح، وغرس اسمه في قلوب أجيال من الذين تماهوا مع برامج المحطة الترفيهية والتثقيفية والتوعوية الهادفة، قبل أن يصبح اسمه مخلدًا في تاريخ المنطقة كلها كأول مواطن يقود ويشرف على جهاز الإعلام المرئي الأول. ويمكن القول أن واحدًا من أسباب نجاحات المزيني في قيادة محطّة تلفزيون أرامكون، عدا عشقه لوظيفته وانضباطه المهني ودراسته النظرية والعملية وحرصه على العمل بروح الفريق الواحد، هو أنه التحق بأرامكو بعد عامين فقط من إطلاق البث التلفزيوني، فعاصر وراقب تلك المحطة التلفزيونية الأثيرة وبرامجها وما كان ينقصها، فعمل جاهدًا على وضع خطط برامجية مبتكرة للارتقاء بها وسد كل نقص أو خلل يعتريها.

أخبرتني ابنته الوحيدة في حوار هاتفي أن والدها لم يكن يسعد، وسط أعباء العمل وكثرة المسؤوليات وزحمة الاتصالات، إلا بهوايات ثلاث كان يتصدرها البحر والصيد، ثم القراءة مع تدخين الغليون، فالإستغراق في سماع أغاني السيدة أم كلثوم. كما أخبرتني أن لوالدها أخ يدعى «أحمد علي المزيني» يقيم في الرياض وهو متقاعد من الجيش السعودي برتبة لواء، وأخ آخر يدعى «أحمد علي المزيني» سبق أن عمل في الأمانة العامة لبلدية الدمام، وأخت تدعى «منيرة علي المزيني» وهي والدة المهندس محمد بن سليمان المزيني المدير في أحد صناديق الاستثمارات العامة السعودية، علمًا بأن اللواء متقاعد أحمد المزيني هو والد العالمة السعودية المعروفة الدكتورة مها المزيني، التي تُعد من الأذرع الفاعلة بقوة في مستشفى الملك فيصل التخصصي ومركز الأبحاث بالرياض بحكم حصولها على درجة الدكتوراه من كلية الطب بجامعة هارفارد العريقة وتخصصها في ضعف المناعة والأمراض المعدية والالتهابات والأخماج التي تصاحب عمليات زراعة الأعضاء. ونظرًا لاكتشافاتها وإنجازاتها المتميزة، حصلت مها على جائزة لوريال واليونيسكو لأفضل امرأة في العلوم بمنطقتي الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بالإضافة إلى العديد من الأوسمة والتكريمات.

المحزن أن صالح علي المزيني لم يعش طويلا، وإنْ كان قد عاش حتى إغلاق قناة الموجة 2 وإسدال الستار على تاريخها العبق مع بدء بث التلفزيون السعودي الرسمي في عام 1970. فقد انتقل رحمه الله إلى جوار ربه شابا في عام 1975، وهو لم يتجاوز سن الثانية والأربعين، مخلفًا وراءه سيرة عطرة وذكرى طيبة لدى كل من تعامل معه أو زامله عن كثب، وإبنيه علي وعادل اللذين حرص على تعليمهما تعليمًا جيدًا منذ صباهما في المدارس الخاصة في لبنان وابن ثالث كان وقتها صغيرًا هو عبدالعزيز صالح المزيني، علاوة على إبنته الأنيقة المثقفة «مي صالح المزيني» التي ورثت الكثير من صفات والدها لجهة الدأب والإرادة وسبر أغوار التحديات بشجاعة. فقد التحقت مثل والدها بشركة أرامكو وتسلقت سلالمها الوظيفية بثقة، وأسست وترأست «المركز العربي لتمكين المرأة» (نصف) وهو مؤسسة اجتماعية تكرس جهودها لتمكين المرأة السعودية والعربية عبر تقديم كل ما يساهم في نموها المعرفي والمهني والقيادي ومساعدتها للمشاركة في اقتصاد وطنها وإدارة مشاريعها الخاصة.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد