: آخر تحديث

بين ''المُصالحة التاريخية'' و"الكاتشاتشا المغربية"

245
243
219

يوسف اتباتو

 مصادفة جميلة تلك التي جمعت بين دعوة الأستاذ إلياس العماري إلى ''مصالحة تاريخية'' وزيارة الملك إلى جمهورية رواندا؛ ذلك أن رواندا وبورندي كانتا مسرحا لجرائم حرب رهيبة بين الهوتو والتوتسي، انتهت بمصالحة تاريخية حقيقية أطلق عليها اسم الكاتشاتشا.. " gatchatcha ".. الأمر يتعلق بمحاكم مُصالَحة شعبية، مبدأها الأساسي هو اعتراف المتهم بكل التهم التي اقترفها، وطلبه العفو أَوّلاً من الضحية. وعليه فشتَّان بين تصالح الدِّيكة المتناحرة من أجل الكعكة، وتصالح تاريخي بين الشعب مع نفسه ومع حكامه.

نتفق إذن أن من أبجديات المصالحة الاعتراف بالخطأ وتحمل المسؤولية، ثانيا طلب العفو، ثالثا الالتزام بعدم العود، ثم تأتي التعويضات مهما كانت قيمتها كجبر رمزي للخواطر.

السؤال المطروح في بلدنا المغرب، من تحمَّل مسؤولية ما وقع، وما يقع، وما سيقع..؟ حين تسأل المواطن البسيط يهمس لك إنَّه المخزن...في حين أن أكثرنا جرأة، أو هكذا كنَّا نظن، حدَّثنا بِدايةً عن العفاريت والتماسيح، واخْتتم ولايته بمفردة ''التحكم''. وبين الفينة والأخرى كنا نسمع عن الدولة العميقة ومفردات أخرى هلامية تكاد تشير إلى كل أحد ولا أحد.

حينما يقع مشكل بين المَغْرِبي وأحد العفاريت، فإنه يلجأُ إما إلى الرُّقية الشرعية أو إلى مشعوذ، ولا يتكلم عن مُصالحة؛ أما المصالحة التاريخية فتتم بين أطراف مكشوفة ملامحها، مغسولة أحقادها.

الأصل أن نعود بعيدا، ونتصالح مع محطات حرجة من تاريخنا. نفتح الجرح أو الجراحات التي لم تندمل بعد، حتى يداويها الجرّاحون لا الدَّجّالون.

نقف مثلا على رسالة بعثها هشام ابن عبد الملك إلى عامله في المغرب: "أما بعد، فإن أمير المؤمنين لمَّا رأى ما كان يبعث به موسى بن نصير إلى عبد الملك بن مروان رحمه الله تعالى، أراد مثله منك وعندك من الجواري البربريات الماليات للأعين الآخذات للقلوب، ما هو معوز لنا بالشام ... فتلطف في الانتقاء، وتوَخَّ أنيق الجمال، وعظم الأكفال، وسعة الصدور ولين الأجساد ورقة الأنامل..وسهولة الخدود، وصغر الأفواه،.. واعتدال القوام.. ورخام الكلام.. ".

قد عَلِمْناه جرحاً غائراً لم يتحلَّ أحد بشجاعة تنظيفه ومداواته. لكن الأنساب اختلطت والحقوق تكاد لا يمكن تَقَفِّيها. فلنقتصر على الماضي القريب.

نفتح كتاب تاريخنا المعاصر فنقرأ هذه العبارة: ''أرِحْنا من هذا المتمرد''، قالها السلطان مولاي يوسف للمارشال بيتان. لم يكن هذا المتمرِّد أحد قطَّاع الطرق، ولكنه أسد الريف سيدي محمد بن عبد الكريم الخَطَّابي. ثم نقرأ أنَّ الظهير البربري لسنة 1930، والذي يفرق بين العرب والأمازيغ، وقع عليه ابنه السلطان محمد الخامس، والذي وقَّع كذلك ظهير 2 أكتوبر سنة 1940، الذي قضى بمنع اليهود المغاربة من ولوج الوظائف العمومية، ثم ظهير 5 غشت لسنة 1941 الذي أضاف لائحة طويلة من مهن حرمت ممارستها على اليهود. نقرأ في الكتاب نفسه أن الحسن الثاني أشرف شخصياًّ على دك جبال الرِّيف. وبُعَيْد ذلك ساهم القصر في سحق المقاومة الصحراوية في الجنوب، بتواطؤ مع الفرنسييِّن والإسبان، وأن الحزب العتيد يومها، مارس إرهابه الخاص، وأن دار المقري لم تكن إلّا حلقة من مسلسل لم ينته بعد، وأنَّ شهداء انتفاضة 1981 ليسوا ''شهداء كوميرا''، وأن المحتجين في مدن الشمال ليسوا أوْباشاً، وأن الموافقة على الاستفتاء في الصحراء المغربية خطأ يستحق الاعتذار عليه، وأن غلق الحدود مع الجزائر جريمة في حق الشعبين، وأنَّ ..وأنَّ.. وأنَّ..

نتدارس جميعا تاريخنا ونربطه بالحاضر، نترحَّم على مَن مات، ضحيةً كان أو جلّادا، ونسمع لشهادة الأحياء. ثم يفكر الحكماء كيف يجبرون الضرر ويلتزم الجميع كما الْتَزم الألمان بعدم عودة عصر الزعيم الملهم.

لا أظن أن أحدا في المغرب يريد الانتقام. يكفي أن نتحلى بالشجاعة الكافية، وهذه روح الكاتشاتشا: شجاعة الاعتراف، شجاعة طلب العفو، وشجاعة العفو.

أعود فأقول إن ضحايا المجازر بين الهوتو والتوتسي تجاوزوا 800 ألف في مائة يوم، ومع ذلك استطاعوا تجاوز الأزمة. كما قامت هيئات مصالحة حقيقية في دول أخرى كجنوب إفريقيا والأرجنتين... لا أخالني أحلم، ولا أخال أنَّنا أغبى مَنْ عاش على هذا الكوكب.

لقد أنشأنا المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، وأنشأنا وزارة حقوق الإنسان، وديوان المظالم، وهيئة الإنصاف والمصالحة، ومازلنا لم نتصالح..فلْنجرِّب كاتشاتشا مغربية.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد