بين تهديد الأمن الروحي والاستيعاب السياسي
خالد يايموت
كشفت عدة تقارير دولية ووطنية، من ضمنها تقرير الحريات الدينية الذي تصدره وزارة الخارجية الأميركية، وتقرير الحالة الدينية الذي يصدره المركز المغربي للدراسات والأبحاث عام 2015م، أن ظاهرة التشيّع بالمغرب أصبحت تحديًا جديًا يواجه المجتمع والدولة. فلقد كانت منظومة التدين المغربي والمغاربي، مؤطرة منذ قرون طويلة بتصوّرات المذهب المالكي والاعتقاد الأشعري، غير أن إيران وحلفاءها مذهبيًا وطائفيًا، أخذوا يستغلون تحوّلات ما أطلق عليه علماء الاجتماع المعاصر «عصر الأديان»، وموجاته المعقدة، لنشر التشيّع بشمال أفريقيا. وهو ما عرّض النسيج الديني لهذه المنطقة للتفاعلات الطائفية بالشرق الأوسط، وأدمجها قسرًا في عولمة القيم والتدين المتلبس بالتشيّع الإمامي، والمتخذ من المرجعيات العقدية الإيرانية والعراقية واللبنانية، مرجعيته الدينية العليا.
من الناحية العملية، يصعب تحديد أرقام محددة للمتشيّعين المغاربة، لسببين: السبب الأول أنهم يخفون نوعية تدينهم ومعتقداتهم، ويمارسون التقية مع محيطهم الاجتماعي، والخاص في كثير من الأحيان. والسبب الثاني، أن مواقفهم السياسية تتعارض والثوابت المغربية التي تجعل من الاستقلالية الدينية والسياسية المغربية مرتبطة بالملك، بصفته أميرًا للمؤمنين، كما ينص على ذلك الفصل 41 من دستور 2011م.
ينقسم الشيعة المغاربة إلى عدة تيارات قليلة العدد، يجمع بينها الارتباط والولاء العقدي والسياسي للخارج. وللعلم، قبل أن تظهر التنظيمات الشيعية الجديدة، كان التعاطي مع المقولات المذهبية الشيعية منحصرًا في الجامعات المغربية. وكان هذا التعامل فكريًا سياسيًا، ومبتعدًا عن التمثل العقدي. غير أن منتصف الألفية الثالثة شهد تغيرًا مهمًا، حين استغل المتشيّعون المغاربة مجموعة من العوامل للظهور بشكل سريع على سطح الساحة السياسية الدينية في المغرب.
أول هذه العوامل، الانفراج الذي شهدته العلاقات المغربية الإيرانية في عهد الرئيس الإيراني الأسبق محمد خاتمي، وكذلك الحرب الأخيرة بين ما يسمى «حزب الله» اللبناني وإسرائيل عام 2006، وما خلفه ذلك من تعاطف عربي شعبي كبير مع ما كان يطلق عليه اسم «جبهة المقاومة». وكان للقنوات الفضائية التابعة والداعمة لإيران، ومنها قنوات عراقية وقناة المنار والعالم وغيرها، في حينه، دور مهم في الترويج للتدين الشيعي. غير أن أهم عاملين ما زالا يتحكّمان في ظهور التشيع بالمغرب على السطح، يتعلقان بالدراسة في الخارج، خصوصًا في سوريا. فأهم الرموز المغربية المعروفة اليوم على الساحة سبق لها أن درست بجمهورية الأسد.
* سفارة إيران في بلجيكا
أما العامل الثاني، فيتمثل في الدور النشط جدًا للسفارة الإيرانية في بلجيكا والجمعيات التابعة لها ماليًا. ولقد أسهمت هذه السفارة، بالذات، بقوة في تشيّع المهاجرين المغاربة. إذ منذ بداية التسعينات من القرن العشرين أقدمت هذه السفارة على تقديم مساعدات مالية شهرية منتظمة للشباب المغربي الوافد إلى بلجيكا، وتشجيعهم على زواج المتعة الذي يمكّنهم من الحصول على أوراق الإقامة. كذلك عملت على ربط جزء من المغاربة بشخصيات دينية تمثل مرجعية الولي الفقيه بالعاصمة البلجيكية بروكسل ونواحيها، ومولت أنشطة وزيارات لإيران استفاد منها هؤلاء الشباب، وهو ما مكّن الإيرانيين من تأسيس جالية شيعية مغربية في بلجيكا تقدر بنحو 20 ألف مغربي.
هذا المسار انعكس على التشيّع داخل المغرب، وقسمه لبعدين؛ خارجي وداخلي: الأول، تتحكم فيه إيران بشكل مباشر وهو يتمثّل بالشيعة المغاربة في أوروبا، خصوصًا الشيعة المغاربة في بلجيكا الذين يقطنون في مدن بروكسل (العاصمة) ولييج وشارلروا وأنتويرب، والذين يكثفون جهودهم لنشر مذهبهم الطائفي بمدن المغرب الشمالية.
أما البعد الداخلي المتعلق بالشيعة المستقرين داخل المغرب، فتعمل الدولة وأجهزتها الأمنية، على فصله بشكل تام عن إيران وسعيها الحثيث لتقسيم المغرب طائفيًا، وخلق «جيوب» لها في أفريقيا عبر دعم شبكتها المنظمة في غرب القارة، التي تمتد من نيجيريا إلى السودان، ومن السنغال إلى الغابون وساحل العاج، مرورًا بالجزائر ووصولاً إلى المغرب.
2 - المجموعة الثانية تعرف بـ«الخط الرسالي»، ويذكر أنه عام 2013 سمحت السلطات المغربية لأعضاء من هذه المجموعة بتأسيس جمعية «الرساليون التقدميون». كما اعترف بشكل قانوني بمؤسسة «الخط الرسالي للدراسات والنشر» عام 2014، ثم في العام الماضي 2015 أعلن متشيّعو «الخط الرسالي» تأسيس «المرصد الرسالي لحقوق الإنسان».
في هذا السياق تحاول السلطة السياسية في المغرب ألا تجعل من ظاهرة التشيع حدثًا إعلاميًا أو حقوقيًا، بل تكتفي بالمراقبة الأمنية، كي تتجنب الانتقادات المتكررة للتقارير الأميركية المدافعة عن التشيع والتنصير في المغرب.
غير أن الوضع بدأ يتغير من جديد منذ عام 2012م، إذ لم تكتفِ السلطة السياسية المغربية بالاعتراف القانوني ببعض المؤسسات التي أسسها الشيعة المغاربة، بل سمحت لهم بالاحتفال الجماعي بعاشوراء لأول مرة عام 2014م، حين أقيمت طقوس بحضور نحو 300 فرد في قاعة للحفلات بمدينة طنجة. ويأتي هذا بعد السماح لمجموعة شيعية في المدينة نفسها بتشييع جثمان أحد أفرادها عبد الله الدهدوه، الذي قتل في بلجيكا عام 2012م، وشهدت الجنازة خروجًا واضحًا عن المذهب المالكي، من خلال طريقة الدفن مثل دفن كتاب مع الجثة وحضور النساء.
من جانب آخر، يظهر أن السلطة السياسية في المغرب تسعى لدمج الشيعة المغاربة في الحقل السياسي، بعدما سمحت لهم بمزاولة بعض شعائرهم بشكل جماعي. إذ التحق أبرز الوجوه الشيعية إدريس هاني، بحزب الحركة الديمقراطية الاجتماعية عام 2015، وكان هاني من المؤسسين لحزب النهضة والفضيلة، والمعدين لورقته المذهبية عام 2005، قبل أن ينسحب منه ويلتحق بحزبه الجديد. وفي السياق ذاته، نسجل أنه عام 2015 سجلت محاولة لبعض الوجوه الشيعية للالتحاق بالحزب الاشتراكي الموحّد، غير أن أطرافًا من داخل الحزب تحفّظت عن اتخاذ هذه الخطوة، خصوصًا مع غموض ارتباطات بعض العناصر الشيعية بإيران، وإيمانها العقدي بولاية الفقيه. في أي حال، يبدو مما سبق أن ظاهرة التشيع في المغرب لها امتدادات خارجية واضحة، تتعلق بالجهود الإيرانية لتشييع الجالية المغربية المقيمة في بلجيكا وكندا وهولندا وإسبانيا، ومن ثم ربط الشيعة المقيمين في المغرب بشيعة غرب أفريقيا، عبر عمل شبكي يلقى دعمًا سياسيًا وماليًا من طهران وشيعة لبنان خاصة. كل هذا من شأنه أن يهدد الأمن الروحي المغربي وتماسك وحدة مذهبه المالكي، الذي قال عنه المؤرخ والمفكر المغربي عبد الله العروي إنه «مذهب مسح الطاولة بشمال أفريقيا»، واستطاع لقرون طويلة جدًا الحفاظ على الوحدة الدينية المذهبية المغاربية، مع الاعتزاز بحب آل البيت.
* أستاذ علوم سياسية في جامعة محمد الخامس - الرباط