: آخر تحديث
من البيان الأول إلى الكتاب الأخضر والجرافة والجمهورية

حكاية "عقيد ثائر" حكم منفردًا وانتهى مُسحلًا.. القذافي كما عرفه التاريخ

3
3
3

إيلاف من لندن: في مثل هذا اليوم من العام 1969، ظهر صوت شاب نحيل عبر أثير الإذاعة الليبية يقرأ البيان الأول للثورة. لم يكن أحد ليتخيل أن هذا الملازم المغمور، ابن الصحراء، سيصبح لاحقًا شخصية مسرحية من طراز خاص، يكتب تاريخه الدولة بمداد من الفانتازيا والعنف.

بعد ثلاثة أشهر، ظهر القذافي في أول قمة عربية له في الرباط. هناك، أمام الزعماء، مارس لعبته الأثيرة: الصدمة. قاطع وزير الدفاع المصري متسائلًا إن كان من الحكمة كشف الأسرار العسكرية في حضور الجميع. خاطب العاهلين المغربي والسعودي بكلمة "أخ"، مثيرًا دهشة من اعتادوا على لغة البروتوكول المشذبة. ثم نادى بالقبض على الجنرال محمد أوفقير في قلب المؤتمر، متهمًا إياه بقتل المعارض المغربي المهدي بن بركة. بدا القذافي كمبعوث من كوكب آخر لا يعترف بحساسيات السيادة.

الجنرالات المغاربة الذين انتهى بهم المطاف في معتقل تازمامارت كانوا يسمونه "الولد"، لا تعبيرًا عن صغر سنه فقط، بل عن فوضى سلوكه السياسي.

جرافات العقيد
في أبريل 1988، صعد العقيد إلى جرافة وهدم بها النقطة الحدودية بين ليبيا وتونس عند رأس جدير. بعد أسابيع، هدم بجرافة أخرى جدار سجن بوسليم، مطلقًا سراح أربعمئة سجين سياسي، مرددًا أنشودة سودانية تقول: "فلا السجن ولا السجان باق".

غير أن الحدث الميكانيكي الأبرز في سردية القذافي كان تصميم جرافة عملاقة بطلب مباشر منه. كُلِّفت شركة إيطالية بتصنيعها خصيصًا لمشروع "النهر الصناعي العظيم"، أحد أكثر مشاريع نقل المياه طموحًا في العالم. بوزن 183 طنًا، ومحرّكين بقدرة 1350 حصانًا، وشفرات بطول سبعة أمتار، كانت الجرافة أقرب إلى وحش فولاذي منها إلى معدّة.

لم تُسلّم ليبيا الجرافة ولا ممهدتها التوأم، إذ حالت العقوبات الدولية دون ذلك. بقيت مخزنة في مستودع حتى اشتراها جامع معدات نادرة يدعى دينو فاليريو، واحتفظ بها في متحف خاص. مات القذافي، ونجت آلته الميكانيكية. في النهاية، كانت الجرافة أطول عمرًا من مشروعها وصاحبها.

الركاب والصاروخ
في 27 يونيو 1980، سقطت طائرة مدنية إيطالية من طراز دي سي-9 فوق البحر التيراني قرب أوستيكا. 81 راكبًا ماتوا على الفور. قيل في البداية إنها قنبلة أو خلل ميكانيكي. لكن الروايات الجادة بدأت تتسرب بعد العثور على حطام مقاتلة ليبية في جبال كالابريا.

تحقيقات مطولة لاحقًا، شملت 5500 صفحة، أشارت إلى عملية اعتراض جوية فاشلة. المستهدف؟ طائرة كان يُعتقد أن القذافي يستقلها في رحلة سرية. الصاروخ؟ فرنسي أو أميركي، بحسب تصريحات صادمة لرئيس الوزراء الإيطالي الأسبق جوليانو أماتو. وصف الواقعة بأنها "عمل حربي سري غير معلن"، بينما أكدت المحكمة العليا الإيطالية أن الطائرة أُسقطت بفعل صاروخ طائش.

السكرتير الاشتراكي بتينو كراكسي، المقرب من القذافي، سمع بوجود خطر وبلّغه لاحقًا. وفي تصريح أكثر وضوحًا، أكد الرئيس كوسيغا أن الناتو استهدف القذافي وأصاب المدنيين. نجا العقيد من الغارة، لكن ملف أوستيكا ظل مفتوحًا كجرح لا يريد أن يندمل.

جماهيرية الأوهام
وُلد معمر القذافي في خيمة بدوية قرب سرت عام 1942. درس في سبها ثم بنغازي، والتحق بالأكاديمية العسكرية، وتلقى تدريبًا في بريطانيا. أعجب بجمال عبد الناصر، واعتنق القومية العربية كعقيدة ومشروع.

انقلب على الحكم في الأول من سبتمبر 1969. في سنواته الأولى، طرد القواعد الأجنبية وأمم النفط، وطرد الإيطاليين واليهود. ثم وضع أسس نظامه الخاص، عبر ما سماه بـ"النظرية العالمية الثالثة"، ووثّقها في "الكتاب الأخضر". زعم أن التمثيل النيابي خدعة، واقترح اللجان الشعبية كبديل.

في عام 1977، أعلن قيام "الجماهيرية"، وتخلى عن المناصب الرسمية، دون أن يتخلى عن السلطة. تحولت ليبيا إلى دولة شعارها كثير وسلطتها مركزية. لم يكن نظامه دولة بالمعنى التقليدي، بل مسرحًا سياسيًا مشوشًا.

العدو والحليف
خارج الحدود، دعم القذافي جماعات مسلحة من أمة الإسلام في أميركا إلى الجيش الجمهوري الإيرلندي. اتُّهم بالإرهاب، وتورطت حكومته في تفجير ملهى برلين عام 1986. رد الأميركيون بقصف طرابلس، فأصيبت ابنته بالتبني وقتل مدنيون، لكنه نجا.

تفجير لوكربي عام 1988 شكل نقطة فاصلة. رفض القذافي تسليم المشتبه بهما، ففُرضت العقوبات، حتى سلّم أحدهما في 1999. دفع 2.7 مليار دولار كتعويض، وأقر بالمسؤولية، وبدأ في تسوية ملفاته الدولية. في 2003، أعلن التخلي عن برنامج أسلحة الدمار الشامل، واستقبل توني بلير في خيمته.

تحولت ليبيا إلى شريك تجاري للغرب، وعادت للمسرح الدولي. لكن بقي شيء زائف في هذا الانفتاح: فالديمقراطية لم تأت، والجماهيرية لم تكن أكثر من يوتوبيا بيروقراطية بلا شعب.

لقطات من سيرة عقيد

 قمة الرباط، ديسمبر 1969: قاطع وزير الدفاع المصري محذّرًا من تسريب المعلومات للإسرائيليين، وخاطب الملك الحسن الثاني بـ"الأخ الحسن" في خروج مربك عن البروتوكول.

– صرخة في الممر: صاح غاضبًا في وجه الجنرال أوفقير: "إنه القاتل... كيف يُسمح له أن يكون بيننا؟" مطالبًا باعتقاله في مقر القمة.

– مارس 1988، طرابلس: قاد جرافة بنفسه لهدم جدار سجن بوسليم وأطلق سراح 400 سجين، مرددًا: "فلا السجن ولا السجان باق" من أنشودة سودانية شهيرة.

– خيمة ضد الرصاص: أصر على نصب خيمته البدوية أينما حل، حتى في نيويورك، ما اضطر المنظمين إلى استئجار طائرة خاصة لنقلها وتركيبها.

– أناقة مشروطة: قال ذات مرة: "كل ما أرتديه يصبح موضة. أرتدي قميصًا فيتبعه الجميع." واعتبر مظهره جزءًا من رسالته الثورية.

– حارسات أمازونيات: أحاط نفسه بحرس نسائي مسلح عرف بـ"الراهبات الثوريات"، يرتدين الزي العسكري ويتدربن على القتال، ما جعله مادة دائمة للسخرية والتحليل.

– جرافة بحجم دولة: أمر بصناعة أقوى جرافة في العالم لمشروع النهر الصناعي، بوزن 183 طنًا، لكنها بقيت حبيسة مستودع إيطالي بسبب العقوبات.

ربيع النهاية
مع اندلاع رياح الربيع العربي، وصلت شرارتها إلى ليبيا. بدأت الاحتجاجات في بنغازي في فبراير 2011، وقمعت بعنف. في خطاب متلفز، ظهر القذافي مشوشًا، يلوّح بيده ويصف المتظاهرين بالجرذان والمدمنين. لم يقنع أحدًا.

بدأت الانشقاقات من الداخل، واستقال دبلوماسيون ووزراء. تدخل الناتو بناءً على قرار أممي، وقُصفت مواقع النظام. في أغسطس، سقطت طرابلس، وفي أكتوبر قُتل القذافي في سرت.

موته لم يُنهِ فصوله. لا تزال ليبيا تبحث عن شكل، وصورة، وهوية. أما القذافي، فقد ترك وراءه كتابًا أخضر، ونهرًا صناعيًا، وجرافة أكبر من دولة.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في أخبار