إيلاف من مراكش: أثار شاب مراكشي، يمتهن بيع الأسماك بأحد أحياء المدينة الحمراء، اشتهر بلقب "عبد الإله مول الحوت" (عبد الإله السماك)، ضجة بين المغاربة، بداية من وسائل التواصل الاجتماعي، قبل أن يأخذ بيعه للأسماك بسعر يقل كثيرا عن سعرها في السوق، أبعادا غير مسبوقة، تحولت إلى نوع من المحاكمة لما سماه البعض "الهوامش الجائرة التي يفرضها تجار الجملة والوسطاء"، الشيء الذي "كشف ألاعيب المضاربين والجشعين"، ودفع إلى المطالبة بـ"خطوات جادة لمواجهة الفساد والجشع"، و"ضمان حقوق جميع المواطنين في الوصول إلى السلع والخدمات بأسعار عادلة.

عبد الاله مول الحوت يعرض بضاعته
وبدأت قصة هذا الشاب المراكشي، حين حدد سعر بيع الكيلوغرام الواحد من السردين في خمسة دراهم (أقل من نصف دولار)، وهو ما يمثل، تقريبا، ربع الثمن الذي يباع به في الأسواق. كما عرض أشكالا أخرى من السمك بأسعار تقل عن سعر بيعها في باقي المحلات في المغرب.
مفارقة
برر الشاب المراكشي سعر بيعه للسردين بأنه يقنع بربح درهم واحد، مشيرا إلى أنه اختار ذلك من منطلق تعاطفه وتضمانه مع المغاربة، خصوصا من يكتوي منهم من نار غلاء الأسعار.
ونجح الشاب المراكشي في كسب قلوب المغاربة، بشكل عام، وتعدت قصته حدود مدينته، بفصل الترويج لها عبر مواقع التواصل الاجتماعي. كما كان للقدرات التواصلية الهائلة التي أبان عنها، خلال لقائه مع وسائل الإعلام أو التسجيلات التي يبثها على حساباته الشخصية، نصيب في ذلك.
ومما زاد في تصدر قصة الشاب المراكشي لاهتمام ومتابعات المراكشيين، بشكل خاص، وعموم المغاربة، إلى درجة تحوله إلى بطل في أعينهم، ارتفاع أسعار عدد من المواد الاستهلاكية، بشكل كبير.
ودفع سعر بيع الشاب المراكشي للسردين في مدينة غير شاطئية جدلا إضافيا بين سكان المدن الساحلية، الذين توقفوا عند مفارقة اقتنائهم السردين، وباقي أنواع السمك، بأسعار مرتفعة مقارنة بتلك التي يباع بها في مراكش.
ولم تخل متابعة قصة الشاب المراكشي من تباين الآراء حولها، حيث سعى بعض رواد التواصل الاجتماعي والمتابعين إلى التشكيك في دوافعه، بل ذهب بعضهم إلى القول بأن همه تحقيق ضجة يستفيد منها ماديا من خلال "تيك توك، وغيره.
لجنة مراقبة ورد اعتبار
دفع الجدل المثار حول هذا الشاب المراكشي، إلى قيام لجنة مختلطة تابعة لمصالح المراقبة المختصة بمراكش بزيارة إلى محل تجارته. وقالت تقارير إن اللجنة قررت "إغلاق المحل مؤقتا إلى حين الاستجابة للشروط المطلوبة"، وذلك على خلفية وقوفها على "مجموعة من المخالفات، منها عدم إشهار اللافتة الخاصة بالأسعار، وغياب الشروط الصحية الملائمة لتخزين الأسماك المجمدة".
ولم تزد زيارة المراقبين لمحل بائع السمك المغاربة إلا تعاطفا مع الشاب المراكشي، الشيء الذي أثار ردود فعل غاضبة ومنتقدة لما اعتبروه قطعا لرزق شاب وخنقا لصوته، بعد أن اختار أن يغرد خارج سرب المحتكرين، مع تساؤلهم عن سبب استهداف هذا الشاب تحديدا، وعدم تفعيل آليات المراقبة المستمرة للأسعار والجودة لتشمل سوق المواد الاستهلاكية بكامله.
والمثير أنه في اليوم الموالي لزيارة اللجنة المختلطة لمحل الشاب المراكشي، سيستقبل هذا الأخير من طرف فريد شوراق، والي جهة مراكش–آسفي، عامل (محافظ) عمالة (محافظة) مراكش، الشيء عده المراكشيون إنصافا لهذا الشاب وإعادة الاعتبار له.
وقال الشاب عبد الإله إن استقباله من طرف الوالي كان "مفاجئا" و"رائعا"، ورد له اعتباره بعد الذي حدث في اليوم السابق؛ مشيرا إلى أن الوالي وباقي المسؤولين عبروا عن دعمهم له، كما شكر ملك البلاد والشعب المغربي.
ويرى كثير من المتتبعين أن قصة "مول الحوت" سيكون لها ما بعدها، خصوصا على مستوى رفع وعي المغاربة بخصوص مستوى الأسعار وانعكاس الغلاء على جيوبهم.
وكان لافتا للانتباه انخراط إعلاميين ومثقفين وبرلمانيين وحقوقيين وفاعلين جمعويين في النقاش المفتوح، بشكل يدفع في اتجاه طرح أسئلة حول وضعية الأسواق وضرورة تحريك آليات المراقبة وضبط المخالفين.
تساؤلات حول الغلاء
وجهت النائبة البرلمانية لبنى الصغيري، عضو فريق "التقدم والاشتراكية" بمجلس النواب (الغرفة الاولى في البرلمان)، سؤالا كتابيا، إلى وزير الفلاحة والصيد البحري والتنمية القروية والمياه والغابات، حول الارتفاع المستمر لأسعار الأسماك في الأسواق الوطنية.
وقالت النائبة الصغيري، في معرض سؤالها، إنه "في الوقت الذي تُعدّ فيه بلادنا من الدول الغنية بالثروة السمكية، بفضل امتلاكها لواجهتين بحريتين وثروة بحرية مهمة، يُفترض أن يكون السمك متاحًا للمواطنين بأسعار مناسبة، خصوصًا أنه يُعتبر من أهم المصادر الغذائية الضرورية؛ غير أن الواقع يُظهر عكس ذلك، حيث تشهد الأسواق الوطنية ارتفاعًا غير مبرر في أسعار الأسماك، مما يجعلها بعيدة عن متناول فئات واسعة من المواطنين، خاصة في ظل تراجع القدرة الشرائية وارتفاع أسعار مختلف المواد الأساسية".
وشددت الصغيري على أن "هذا الوضع يثير العديد من التساؤلات حول أسباب هذا الغلاء، خصوصًا مع استمرار نشاط الصيد البحري وتوفر الإنتاج المحلي، مما يطرح احتمال وجود مضاربة واحتكار في سلاسل التوزيع، أو اختلالات في آليات التسويق، وهو ما يستدعي تدخلاً عاجلاً لضبط الأسعار وضمان استفادة المواطنين من ثروتهم البحرية، خصوصا ونحن مقبلون على شهر رمضان الكريم، وكذا أن هذه المادة تُعدّ أساسية في موائد المغاربة خلال هذا الشهر الفضيل". وأضافت: "لذا، نسائلكم السيد الوزير المحترم عن الإجراءات والتدابير التي تعتزمون اتخاذها من أجل الحد من ارتفاع أسعار الأسماك وضمان توفرها بأسعار معقولة في الأسواق الوطنية".
مساندة وتضامن
كتب عبد الله شفقي، وهو برلماني منتم لحزب التجمع الوطني للأحرار ورئيس مقاطعة المنارة بمراكش ورئيس هيئة المنتخبين التجمعيين بجهة مراكش-أسفي، أن عبد الاله ابن مراكش أو "مول الحوت" كما يطلق على نفسه "شكل بمفرده قناة للوعي المجتمعي بضرورة تحريك الوازع الأخلاقي في التجارة أمام جشع البعض واحتكار البعض الآخر".
واعتبر شفقي، في تدوينة نشرها على حسابة الشخصي بـ "فيسبوك"، أن المسألة "أخلاقية في تجارة يحكمها قانون العرض والطلب قد لا تراعى فيها مصلحة المواطن صاحب القدرة الشرائية المحدودة". وأضاف: "أسباب كثيرة قد نعلم بعضها وقد نجهل بعضها الآخر دفعت بهذا الشاب الرائع أن يقدم درسا بليغا في التسويق لم يدرسه لا في الجامعات ولا في المعاهد المتخصصة، وإنما سبل الحياة وإكراهاتها جعلته يعبر عن رفضه لوضع عجز كثيرون أن يكشفوه إما عن خوف أو تواطؤ".
وأضاف شفقي، مخاطبا الشاب عبد الإله: "قد يشكك كثيرون في عملياتك التجارية، قد يهددك البعض الآخر، ثم قد تجر عليك مواقفك الكثير من السخط واللغط.. لكن تبقى متفردا وفريدا من خلال كشفك للاحتكار والاستغلال. قد يتهمونك بما ليس فيك. وقد يشككون في مصدر تجارتك، لكن فقط كن متيقنا بأن الله معك والكثير ممن دخلت قلوبهم. قبلك تعرض العديد من الجزارين (القصابين) لنفس المضايقات فقط لأنهم يبيعون اللحوم بأسعار تقل بكثير مما هو موجود في الأسواق. أصبحنا نعيش الجشع في مجالات عدة وبأشكال مختلفة تفتقد للوازع الديني والأخلاقي. استمر عبد الإله، فتجارتك رابحة، أولا مع الله سبحانه وتعالى ثم مع من يبادلونك الحب والاحترام والتقدير. فقط انتبه لنفسك. مع كل المساندة والتضامن".
أكبر من السردين
من جهته، كتب الباحث والكاتب الصحفي أحمد الدافري على حسابه بـ "فيسبوك"، أن موضوع الشاب المراكشي "ليس مجرد موضوع بسيط خاص بالسردين"، وشدد على أن "الشاب المراكشي الذي صور فيديو وهو يبيع السردين بخمسة دراهم، لا يهم من هو، ومن يكون، ولا لماذا فعل ذلك؟ الأهم هو مناقشة الموضوع الذي طرحه من حيث الجوهر".
وأضاف الدافري أن كل ما فعله هذا الشاب المراكشي هو أنه "أثار موضوعا جوهريا ينبغي أن تتم مناقشته بعمق. وهو موضوع مرتبط ببنية اقتصادية مختلة ينبغي النظر إليها بجدية. الموضوع ينبغي النظر إليه من زاوية انتشار وسائل ارتزاق غريبة، تتمثل في وجود أشخاص يعملون ويتعبون ويشقون مقابل ثمن زهيد، بالموازاة مع وجود أشخاص لهم نفوذ يستغلون شقاء العاملين الذين يكدون ويشقون، ويجنون من شقائهم مبالغ مالية كبيرة وهم خاملون. الموضوع هو وجود صياد يصيد السمك بالأطنان، ويغامر داخل البحر بحياته، مقابل أجر هزيل، والذي يجني الأموال الكثيرة هو صاحب رخصة الصيد في أعالي البحار، وهو المُضارب والسمسار، الذين يديرون أعمالهم بالهاتف من الدار".
وخلص الدافري إلى القول: "أن تتحدث في الجوهر الذي أثاره هذا الشاب المراكشي الذي لا يهم معرفة مستواه الدراسي ولا معرفة سلوكه مع أصدقائه وكيف هي علاقاته مع أفراد أسرته أو مع الجيران، ولا معرفة هل سجله العدلي نظيف أو أنه من ذوي السوابق القضائية، ليس معناه أنك شعبوي أو أنك تساند الشعبوية. بل لأن الحديث عن هذا الموضوع وتناوله بعمق وجدية هو حديث عن قضايا ذات ارتباط بالأمن الاجتماعي. والمجتمع الذي يكثر فيه المضاربون والسماسرة وأصحاب المأذونيات والمستفيدون من الريع، الذين يراكمون الأموال على حساب الكادحين، ويخلقون موجات الغلاء الفاحش في الأسواق، هو مجتمع قد يصبح مهددا في أمنه واستقراره".
لوبيات
بدورها تحدثت الإعلامية جيهان العبادي عن "شعور مشترك" بين العديد من المواطنين أن هناك بعض اللوبيات التي تسيطر على السوق وترفع الأسعار لصالحها، مشيرة إلى أن هذا الوضع "يضر بالمستهلكين الصغار والمنتجين المحليين مثل المزارعين الصغار".
ورأت العبادي، في تدوينة على حسابها بـ "فيسبوك"، أن "مراقبة الأسعار وفرض قوانين صارمة على الوسطاء يمكن أن يكون لها دور إيجابي في تحسين الوضع"، كما أن "الوعي بالمشاكل وطلب التغيير من قبل المواطنين يمكن أن يكون له تأثير كبير أيضًا".
وشددت العبادي على أن "تزايد الفجوة بين تكاليف الإنتاج وأسعار البيع في السوق المغربي، مع هوامش ربح تصل إلى 300 بالمائة يبرز الحاجة الماسة للتحليل والتدخل الفعال"، مشيرة إلى أنه "في ظل اقتصاد السوق الحر، يبقى ضبط الأسعار وضمان عدالة توزيع الأرباح تحديًا كبيرًا".
ورأت العبادي أنه يبقى "من الضروري أن تأخذ الجهات المسؤولة في الاعتبار الوضع الحالي للسوق، حيث يعاني المواطنون من تآكل دخلهم بسبب التضخم المتزايد وجمود الأجور". كما دعت إلى "حوار مفتوح ومستمر بين الجهات الحكومية والمستهلكين والمنتجين المحليين للبحث عن حلول تساهم في تقليل التكاليف وتحقيق توازن أفضل في السوق".
وبالإضافة إلى ذلك، تضيف العبادي، "ينبغي تعزيز المراقبة وضمان تطبيق القوانين واللوائح الحالية بشكل أكثر فعالية لردع التجاوزات ومنع الاستغلال".