اذا حقق التوانسة بشعار ''الخبز والماء وبن علي لا'' ؟ هل فشلت الديمقراطية التي انتجتها صناديق الاقتراع في صناعة الخبز الذي طالب به التوانسة؟ أم أن ثمار الديمقراطية تحتاج وقتا طويلا للنضج؟
بعد قرابة 12 سنة من سقوط العائلة الملكية في تونس والتي كانت تحكم بقوانين جمهورية على مقاس عائلة الملك، يجد التونسيون أنفسهم في وضع اقتصادي بائس بعد أن دخلت تونس طريق الديمقراطية العقيمة التي لا تنتج الخبز ولا تقدم الماء، هذا الوضع جعل الغالبية العظمى تحن إلى زمن الديكتاتورية التي فرض فيها بن علي احترام وهيبة الدولة بالقمع، ولكنه بالمقابل جنبها من حاجة السؤال ومد اليد لصندوق النقد الدولي، وسمح لها أن تنافس دول البحر الأبيض المتوسط في قطاع السياحة، ودول المغرب العربي في الصناعات الخفيفة، ورفع من القدرة الشرائية للتونسيين مقارنة بالمستوى المعيشي في الديكتاتوريات المجاورة، ولكن التوانسة اختاروا الطلاق مع العائلة الملكية الناهبة ليسقطوا في فخ الباجي قايد السبسي و حركة الإخوان الناهبين التي وفرت مناخا أمنيا ساهم في تدمير قطاع السياحة وكرست لنفس الممارسات السابقة في الإدارة ولكن بمستوى عالي من النهب والفساد وسوء التسيير، ثم أفرز الوضع البائس والشعور بالإحباط الشعبي العام، اختيار قيس سعيد الذي أتى بشعار ''الشعب يريد'' من دون أن يكمل الجملة، ومن دون أن يقدم أي برنامج ولا رؤية اقتصادية كفيلة بإخراج التونسيين من مأزقهم الاقتصادي ، ليجد نفسه في قلب معركة كبيرة مع حيتان النهضة، استعمل فيها الأسلحة الدستورية لإبعادهم عن المشهد، ولكن أين هي تونس الآن؟ وهل بإمكان قيس سعيد قيادة السفينة إلى بر الأمان؟ ام ان السفينة تتجه إلى صخرة عملاقة ستغرقها بمن فيها؟
في الوقت الذي تشهد فيه تونس أزمة اقتصادية وسياسة حادة، تتعالى الأصوات مجددا من واشنطن لتفرض املاءات جديدة على الرئيس التونسي قيس سعيد وتحثه على إجراء إصلاحات من شأنها أن تجنب تونس قطع المساعدات الأمريكية، ووصفت مساعدة وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى السفيرة باربرا ليف الوضع الاقتصادي في تونس بالمثير بالقلق وهو ما لمسته خلال زيارتها الى تونس، حيث أبلغها ممثلون عن المجتمع المدني التونسي والخبراء الاقتصاديون قلقهم المتزايد بشأن الظروف الاقتصادية في تونس، هذا التدخل من الخارجية الأمريكية في الشأن التونسي يبرز ان الديمقراطية وسيادة القرار الذي يتغنى به قيس سعيد مرهون بضغوط خارجية تجعل القرار السياسي مرتبطا بإملاءات واشنطن وهو بحذ ذاته دليل على ضعف قصر قرطاج والدولة في حذ ذاتها.
لقد أدخلت تبعات الوباء ومخلفات الوضع السياسي تونس في مرحلة حرجة قد تؤدي بها الي سيناريو لبنان، في ظل مؤشرات سلبية لأداء اقتصاد مهلهل ألقى بظلاله على معيشة التونسيين وجعلهم يكافحون الغلاء والتضخم والندرة والبطالة في آن واحد، وهو ما ينبأ باحتمال حدوث انفجار شعبي وشيك ضد حاكم قرطاج، قد يأتي على الأخضر واليابس ويعيد تونس إلى المربع الأول من الربيع العربي وإلى مطالب الخبز والماء. وفي ظل غياب حلول اقتصادية استعجالية فإن تونس تتجه وبخطى ثابتة إلى انهيار الأساس الديمقراطي الذي قامت عليه الجمهورية الثالثة: يحتاج البناء الديمقراطي إلى أرضية اقتصادية صلبة يمكنها أن تتحمل ثقل الوضع السياسي القائم وهو ما يرهن تجربة الديمقراطية ومشروع قيس سعيد ويضعه في خانة الفشل اذا انه لن يستطيع الصمود طويلا أمام تطلعات الشعب التونسي في التنمية والاستفادة من مكتسبات ثورته ضد النظام الديكتاتوري، هذا الفشل الاقتصادي سيدفع بالتونسيين إلى نبذ الديمقراطية وتقبل أي بديل يحل محل شعارات وخطابات قيس سعيد المليئة بالبلاغة العربية التي لا تسمن ولا تغني من جوع بل تدفع بالبلد كالكرة الثلجية في منحدر عميق وهنا ستصبح مهمة الراغبين في الاستيلاء على تونس سهلة خاصة اذا توفرت هنالك أجندة خارجية بإمكانها دفع المال و تقديم ما يبحث عنه الشعب التونسي لا ما يقدمه نظام قيس سعيد الفاشل اقتصاديا.
إن استمرار ندرة المواد الغذائية وغلاء الأسعار فضلا عن ارتفاع معدلات البطالة وازدياد رقعة الفقر وسياسات التقشف التي فرضتها ديون البلاد واستمرار تقهقر المؤشرات الاقتصادية كلها عوامل ستحول الغليان التونسي الذي تصدح به وسائل التواصل الاجتماعي إلى غليان يجتاح الشارع وربما سيكون الملاذ الوحيد الذي ستتمكن من خلاله حركة الإخوان كسر القيود والعودة إلى المشهد خاصة وانها تملك من وراءها مالا فاسدا بإمكانه شراء الذمم و قلب المعادلة وحتى وان لم تتمكن من العودة إلى المشهد فإنها ستتحالف مع تيارات قادرة على تنفيذ أجندتها أو ستطرح نفسها في ثوب جديد ومسمى آخر وفي كل الحالات ستسمر تونس في حصد النتائج العكسية لثورتها التي قامت من أجل الحرية والكرامة والعيش الكريم لتجد نفسها في ديمقراطية يفر منها الكبار والصغار عبر قوارب الموت.