ما أشبه اليوم بالبارحة! الطبول تُقرع للحرب بين روسيا والولايات المتحدة في عام 2022، تماماً مثلما قُرعت بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة في عام 1962، قبل ستين عاماً. كادت أزمة الصواريخ الكوبية تُفجر حرباً نووية بين موسكو وواشنطن في عهدَي: رئيس الوزراء السوفياتي نيكيتا خروشوف، والرئيس الأميركي جون كيندي.
في ذلك الحين، فرضت الولايات المتحدة حظراً تجارياً على السلع الكوبية، وفي مقدمتها السكر والتبغ، وأنزلت المخابرات المركزية الأميركية 1400 من المنفيين الكوبيين في خليج الخنازير على الساحل الجنوبي لكوبا، لإسقاط الرئيس الكوبي فيديل كاسترو الذي كان يقود نظاماً يسارياً موالياً للاتحاد السوفياتي والشيوعية.
وقف العالم على قدميه وهو يتابع «الموقف الأكثر سخونة في الحرب الباردة» كما قالت مجلة «تايم». قيل أن الحرب العالمية الثالثة على الأبواب، وهي حرب نووية، كما ذكر المحللون السياسيون والعسكريون في ذلك الوقت. تماماً مثلما نقرأ ونسمع هذه الأيام عن حرب أوكرانيا المتوقعة بين روسيا والولايات المتحدة. بوتين بدلاً عن خروشوف. وبايدن بدلاً عن كيندي. وفولوديمير زيلنيسكي رئيس أوكرانيا بدلاً عن فيديل كاسترو رئيس كوبا.
وكالعادة اصطفت الدول الشيوعية في تلك السنوات إلى جانب الاتحاد السوفياتي، وكذلك الدول النامية والمستقلة حديثاً في آسيا وأفريقيا. أما الدول الأوروبية والدول غير الشيوعية فقد وقفت مع الولايات المتحدة. وكانت حركة عدم الانحياز في بداياتها، بعد مؤتمر باندونغ في إندونيسيا في عام 1955، والتزمت بدعواتها إلى السلام وعدم تصعيد لغة الحرب.
استمرت الأزمة الكوبية لمدة أسبوعين، وقُبيل الوصول إلى حافة الصدام الصاروخي الذي كاد يتحول إلى صدام نووي في أي لحظة، تراجع الاتحاد السوفياتي وزعيمه نيكيتا خروشوف الذي أصدر أوامره بعودة السفن حاملة الصواريخ الروسية إلى قواعدها، مقابل قرار الرئيس الأميركي جون كيندي برفع الحصار عن كوبا تدريجياً، وسحب صواريخه من تركيا.
هل يقتدي الرئيسان بايدن وبوتين بـ«السلف»، ويتلافيان الحرب في اللحظة قبل الأخيرة؟ الولايات المتحدة - ومعها الدول الأوروبية - تدعو إلى حل دبلوماسي للأزمة الأوكرانية قبل نفاد الوقت. وحاولت دول كثيرة الضغط على روسيا لسحب قواتها من الحدود الأوكرانية؛ وعلى أميركا لوقف الحرب الصوتية الاستفزازية، وتقريب وجهات النظر، وطمأنة الشعب الأوكراني المسالم الذي أعلن قبل سنوات التخلص من مفاعلاته النووية بعد كارثة تشرنوبل.
لا أحد يريد حرباً نووية أو غير نووية؛ سواء بين العملاقين الكبيرين: روسيا والولايات المتحدة، أو بين أي دولتين غيرهما. العالم يتسع للجميع بشروط السلام والتعاون والعدل وحماية سيادة الدول وحدودها وثرواتها ومصالحها، وحقوقها في الحياة الآمنة ومستلزماتها العصرية، وعدم العدوان على الشعوب والدول المستضعفة، كما حدث ويحدث في فلسطين والعراق وسوريا ولبنان واليمن وليبيا والسودان وكشمير وعربستان وفنزويلا وأرمينيا.
في اجتماع للرئيس الروسي بوتين، شن حملة على السياسة الأميركية التي نصّبت نفسها «شرطياً» على العالم، قال فيه إن الولايات المتحدة شنت على العراق حرباً عدوانية بحجة أنه يمتلك أسلحة دمار شامل، وتبين للأميركيين بعد احتلال العراق وتدميره أنه لا يملك غير الأسلحة العادية التي تملكها أضعف الدول. وسخر بوتين من تصريحات المسؤولين الأميركيين بعد احتلال العراق، بأن المخابرات المركزية الأميركية خدعتهم، ودفعتهم إلى احتلال البلد! لماذا لا تحتل الولايات المتحدة إسرائيل، وهي تملك عشرات القنابل الذرية، وتحتل بلداً عربياً تاريخياً اسمه فلسطين؟!
إنه الكيل بمكيالين. وكما أن الثوب الأميركي ليس ناصع البياض، كذلك البدلة الروسية تلوثت بالتدخل في سوريا ضد إرادة الشعب السوري، وتلوثت بقضم أقاليم من دول الاتحاد السوفياتي المنهار بحجة أنها كانت تابعة لموسكو. ولم تكن أوكرانيا في يوم من الأيام مصدر تهديد لروسيا، وأسلحتها ليست لشن أي حرب مع دول الجوار، وقد لا تكفي لحماية حدودها، وقواتها البحرية على البحر الأسود أكوام من الحديد لا تصمد أمام الزوارق الحربية الروسية الحديثة. ولولا ضعف القوات الأوكرانية لما تجاسرت إيران وأسقطت طائرة ركاب مدنية أوكرانية بصاروخين أرض جو، في عام 2020، ولقي جميع من عليها حتفه؛ بل إن حكومة كييف ضعيفة إلى درجة أنها لم تستطع حتى اليوم الحصول على تعويضات عن الطائرة وركابها الـ176، بسبب تلكؤ النظام الإيراني، وتواضع التعويضات.
تأمل العاصمة الأوكرانية كييف أن يتراجع الطرفان الروسي والأميركي عن لغة الحرب، إلا أن ذلك قد يصطدم بعناد بوتين وقلة تجربة بايدن في المناورات السياسية. بوتين ليس نيكيتا خروشوف خريج مدرسة الزعيم الماركسي ستالين، وبايدن لا يملك دبلوماسية الرئيس الأميركي جون كيندي.
قد يتساءل المرء بعد أن أجرى الرئيس الأميركي بايدن مكالمات هاتفية مباشرة مع بوتين: ماذا قال هذا؟ وبماذا رد ذاك؟ الموقف لا يتحمل أي مجاملات، وهو ما عبرت عنه الرئاسة الروسية بأن بوتين ناقش مع بايدن «التكهنات الاستفزازية» و«الغزو المزعوم»، بينما تحدثت الرئاسة الأميركية عن توقع «هجوم خاطف» و«غارات جوية» من قبل روسيا ضد أوكرانيا. وما زاد الأمر غموضاً وتضارباً لجوء عدة دول إلى تخفيض عدد دبلوماسييها في سفاراتها في أوكرانيا. قد يبدو هذا نفير حرب متوقعة، أو إشارات خاطئة قد تؤدي إلى استنتاجات وهمية. الوقت يمضي سريعاً، و«الفرصة الأخيرة» لا تتكرر. وعلى كل حال؛ حرب المكالمات الهاتفية أفضل بكثير من حرب الصواريخ والمدافع والضحايا. أما إذا دخلت المشكلة إلى مجلس الأمن فلن تجد لها حلاً بسبب «الفيتو» الصيني والروسي والأميركي والبريطاني. وما دامت المشكلة بعيدة حتى الآن عن مجلس الأمن فهناك أمل.
هل فعلاً قاد بوتين قطار السلام بسحب بعض قواته من الحدود الأوكرانية؟ في الجانب الآخر من يشكك في هذا القرار، وما زال يعلن أن القوات الروسية لم تستجب إلى الرأي العام الدولي بالسعي إلى التهدئة وضبط النفس، وأن هناك «مناورات» عسكرية وسياسية تحتاج إلى براهين لإسقاط الشكوك؛ لكن هذه الشكوك ليست في محلها؛ لأن الأقمار الصناعية الأميركية والطائرات المُسيَّرة تستطيع تصوير أعماق البحار والمحيطات، فكيف بسطح الأرض والمعسكرات الحدودية، وانسحاب أو تقدم الدبابات والمدرعات والصواريخ وآلاف المقاتلين إلى الحدود الأوكرانية أو منها؟ وما «الدلائل الفعلية» التي يطلبها الغرب من الشرق؟ هل المطلوب من بوتين أن يقسم اليمين على أنه سحب بعض قواته لتقليص التوتر المتبادل؟
في عام 2002 وقف وزير الخارجية الأميركي الأسبق كولن باول في منظمة الأمم المتحدة، ليعرض على الشاشة صوراً وخرائط لسيارات شحن متحركة في العراق، تحمل أسلحة دمار شامل كيماوية وبيولوجية، زاعماً أن بلاده لديها أدلة أكيدة على وجود هذه الأسلحة، بعد أن رصدتها الأقمار الصناعية. وقال باول بعد احتلال العراق وعدم العثور على أي سلاح كيماوي أو بيولوجي، إنه يشعر «بوصمة عار» وإن ما قاله في هذا الصدد «نقطة سوداء» في حياته. وها هو وزير الخارجية الأميركي الحالي بلينكن، يعلن في مجلس الأمن أن لديه «أدلة الغزو الروسي المرتقب لأوكرانيا، وأن روسيا تمارس حملة تضليل وخداع»!
لا أملك إلا أن أدعو بألا يحدث «الغزو الروسي»، ولا نسمع عن «نقطة سوداء» أميركية ثانية.