: آخر تحديث
دعا إلى استغلال الثورة الاتصالية لبناء ثقافة أطلسية مشتركة تحترم التنوع الثقافي

بن عيسى يدعو الى تصحيح الصورة السلبية السائدة بين شعوب وثقافات الحوض الأطلسي

50
60
51

مراكش: أكدت جلسة "دور الثقافة في العلاقات الأطلسية"، السبت ضمن فعاليات الدورة السابعة لمؤتمر "حوارات أطلسية"، الذي نظمه "مركز السياسات من أجل الجنوب الجديد"، بمراكش، على مدى ثلاثة أيام، في موضوع "ديناميات أطلسية: تجاوز نقاط القطيعة"، بحضور نحو 350 مشاركا من 90 دولة، بينهم رؤساء دول ووزراء سابقون ودبلوماسيون وخبراء، أهمية الثقافة في إحداث تقارب مستدام بين أوروبا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، بحيث تتدارك انعدام الثقة بين السياسيين.
وركز محمد بن عيسى، وزير خارجية المغرب الأسبق ، وامين عام مؤسسة منتدى اصيلة ، رؤيته، خلال هذه الجلسة، على المسارات الثقافية في المسألة الأطلسية، من "خلفية عربية أفريقية، تعكس الضفة الجنوبية الغربية للأطلسي التي تداخلت فيها وامتزجت عوالم ورهانات حضارية متنوعة وغنية".
 
في مفهوم المجال الأطلسي
 

انطلق بن عيسى من مفهوم المجال الأطلسي، الذي قال عنه إنه "قليلاً ما يخضع لواجب التدقيق والتمحيص"، مشيراً باقتضاب إلى دلالتين سائدتين: أولا، "الدلالة الجغرافية - التاريخية التي تركز على جسور الترابط التي نسجها المحيط الأطلسي بين القارات الثلاث (أفريقيا وأوروبا وأميركا) خصوصاً منذ اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح (1487) ووصول كريستوف كولومبوس إلى أميركا (1492)"، حيث "تحول المجال الأطلسي إلى مركز العالم منذ القرن الخامس عشر بما كرس تراجع العالم الآسيوي وانطلاق الحداثة من الضفة الأطلسية الأوروبية وتركز الاقتصاد العالمي حول مسالك التجارة الأطلسية أي التجارة الثلاثية التي كان لها أسوأ التأثير على أوضاع أفريقيا نتيجة لاستجلاب مئات الآلاف من العبيد إلى العالم الجديد"؛ وثانيا "الدلالة الاستراتيجية التي ارتبطت بالحرب الباردة والنظام الدولي الذي قام بعد الحرب العالمية الثانية على أساس الدور المحوري للولايات المتحدة من حيث هي مركز المنظومة الاقتصادية العالمية والقوة العسكرية الأولى دوليا، بما عكسه إنشاء أهم حلف عسكري استراتيجي دولي هو حلف شمال الأطلسي الـ(ناتو) عام 1949، من أجل ضمان أمن واستقرار العالم الأطلسي وإن توسع ليشمل أغلب البلدان الأوربية".
 
جروح حية
 
بعد ان رأى أن الدلالتين السالفتين تحددان الإطار العام الذي تتنزل فيه المسألة الثقافية، أشار بن عيسى إلى محددات أربعة، تحدث عنها في جملة ملاحظات مكثفة. أول ملاحظة، يقول بن عيسى ، تتعلق بــ"الإشكال الذي يطرحه تعايش وتداخل وصدام عوالم حضارية شديدة التباين والاختلاف يحتويها هذا المجال الأطلسي الواسع". وهنا عاد إلى التاريخ ليذكر كيف أن مفهوم المجال الأطلسي قد قام منذ نهاية القرن الخامس عشر على حدثين مأساويين، هما طرد وإبادة سكان الأقاليم الأندلسية من المسلمين واليهود على يد السلطات الحاكمة التي وضعت يدها على القارة الجديدة المكتشفة، وإبادة السكان الأصليين للقارة الأميركية باسم القيم الحضارية للنهضة الأوربية. وهما حدثان، يقول بن عيسى ، تلتهما مأساة أخرى، هي استعباد وتهجير عدد هائل من أبناء الضفة الأطلسية الأفريقية في تحقيق لحاجيات الاقتصاد العالمي الجديد القائم على استغلال موارد بلدان غرب ووسط أفريقيا المادية والبشرية.
وأبرز بن عيسى أن "هذه الجروح الحية لم تمنع بالتأكيد قيام حالات كثيفة من التداخل الثقافي برز بقوة في الفن الموسيقي والمعماري وفي اللغة والتقاليد والدين، لكنها رسمت حدوداً معيقة لاندماج ثقافي حقيقي لا يزال مطلباً ملحاً وموضوعياً".
 
اعتبارات استراتيجية
 
تتلخص ثاني ملاحظة، بسطها بن عيسى ، في أن "الاعتبارات الاستراتيجية هيمنت منذ الحربين العالميتين على العلاقة بين مكونات العالم الأطلسي من منظور مزدوج: الحلف العضوي الوثيق بين الولايات المتحدة وأوروبا الغربية لحماية العالم الغربي وتحصينه من الخطر السوفياتي ثم الروسي، واستتباع الدول الأفريقية في الصراع القطبي الدولي، وهكذا تم تغييب الجوانب والمعطيات الثقافية في العلاقات الأطلسية ولم يتجاوز الاهتمام بها العمل التبشيري الديني (الكنائس البروتستانتية الأميركية والأنغلوسكسونية النشطة في أفريقيا) أو الاهتمام الانتربولوجي بالتأثير الزنجي الإفريقي في الثقافة الأميركية المعاصرة، خصوصاً في الفن الموسيقي والفولكلور الشعبي".
 
رهانات ثقافية
 
لاحظ بن عيسى ، في ثالث الملاحظات، أن "الرهانات الثقافية في العالم الأطلسي تتركز حالياً في ملفين محوريين هما الهجرة من الضفة الجنوبية الأطلسية إلى أميركا وأوروبا بما تطرحه من تحديات جوهرية على طبيعة النسيج الاجتماعي والثقافي (إشكالات التعددية الثقافية) والعنف الراديكالي الذي يأخذ صبغة دينية زائفة وهو ظاهرة تحيل إلى إشكالات ثقافية بتجليات متباينة في موضوعات القيم الرمزية والسلوكية والمقدس وتدبير الحقل الديني وتأويل النص بما يحتاج إلى أوجه شتى من النظر المقارن الدقيق والموضوعي".
 
هيمنة ثقافية
 
ستشكل "طبيعة التحولات الثقافية الجديدة في العالم الأطلسي الناتجة عن الثورة الاتصالية الراهنة التي غيرت جذرياً طبيعة المنتج الثقافي ونوعية الصناعات الثقافية التي أصبحت اليوم من مرتكزات الحضارة الصناعية الثانية القائمة على الذكاء الاصطناعي والعمل غير المادي"، رابع ملاحظة تحدث عنها بن عيسى ، مشيراً في سياقها إلى أن "من آثار هذه التحولات المفارقة التي تتمثل في كون هذا المجال التواصلي الكثيف سمح بانتشار وتمدد المادة الثقافية المتنوعة عالمياً لكنه في الآن نفسه ركز الهيمنة الثقافية للمراكز العالمية التي تحتكر الأدوات التقنية للثقافة الجديدة، بما يقلص عملياً الإمكانات المتاحة لحوار ثقافي جدي ومتكافئ بين مكونات العالم الأطلسي".
 
تصحيح صورة
 
إثر لك، ختم بن عيسى مداخلته بجملة ملاحظات نقدية واستشرافية أجملها في ثلاثة عناصر. فبخصوص العنصر الأول، رأى أنه يبقى "من الضروري العمل على تصحيح الصورة السلبية السائدة في المجال الأطلسي ما بين شعوبه وثقافاته المتنوعة، بما فيها الشعوب الأفريقية والأميركية الجنوبية التي تجمعها شتى الأواصر والعلاقات ويجمعها المصير المشترك"؛ مشيراً إلى أن ذلك يكون "دون تكثيف الزيارات المتبادلة وتوطيد برامج التعاون بين الفاعلين الثقافيين وخلق البيئة الملائمة للتفاعل والترابط بين مكونات هذا المجال الأطلسي الواسع"، حيث أن "الأمر هنا يتطلب الاستثمار الواسع في العمل الثقافي في مختلف جوانبه من تنظيم ملتقيات ومؤتمرات فكرية وأنشطة فنية وترجمة أعمال إبداعية. فما أقل ما يعرف الأفارقة من كبار المفكرين والمبدعين من بلدان أمريكا اللاتينية وما أقل ما يعرف أولئك من مبدعي إفريقيا وكتابها ومثقفيها".
جسور
 
في ما يخص العنصر الثاني، قال بن عيسى إنه "الحاجة الماسة إلى توثيق جسور التعاون والتنسيق بين المؤسسات الثقافية الأطلسية التي لا تزال في غالبها منغلقة على محيطها الضيق على الرغم من التداخل اللغوي والثقافي الكثيف بين مكونات هذا المجال الواسع". ولاحظ، في هذا الصدد، أنه "إذا كانت البرازيل في عهد الرئيس السابق لولا دا سيلفا قد اعتمدت مبادرة طموحة للشراكة مع أفريقيا استناداً إلى أوجه التداخل البشري والثقافي بين هذه القوة الدولية الصاعدة وأفريقيا، وتبنت الجامعة العربية مبادرة مماثلة للحوار الثقافي العربي مع العالم الآيبيرو- اميركي، إلا أن هذه المبادرات لا تزال محدودة الأثر والتأثير وتحتاج إلى دفعة قوية في المستقبل لتؤتي أكلها وتؤدي أهدافها العميقة".
 
ثورة اتصالية
 
بالنسبة للعنصر الثالث، فالأمر يرتبط، حسب بن عيسى ، بالدور بالغ الأهمية الذي صار لوسائل التواصل الجديدة، على مستوى "توطيد أواصر التعاون والتعارف والتبادل بين ضفتي الأطلس ومكوناته الحضارية والثقافية المتنوعة"، مشيرا إلى أن "لهذه الوسائل قدرة لا شك فيها في التعريف بالمنتجات الثقافية والفنية من موسيقى ورقص وإبداع أدبي وفن معماري". ومن هنا، يضيف بن عيسى ، "يتعين التعاون في استغلال الثورة الاتصالية الراهنة في بناء ثقافة أطلسية مشتركة تحترم التنوع الثقافي وتجمع بين مقومات الهوية الأصيلة ومقتضيات التجدد والانفتاح".
 
إشادة
 
أشاد بن عيسى في ختام مداخلته بما حققته بلاده من "جهود جبارة في التقريب بين ضفتي الأطلسي"، وذلك وفق "المقاربة الرائدة"، التي قال إن الملك محمد السادس قد كرسها للعلاقات بين أفريقيا والعالم الأطلسي، بما "أهَّل المغرب ليكون صوت أفريقيا القوي في المنتدى المتوسطي وبوابة القارات الثلاث، ودعامة السلم والأمن والاستقرار في محيط مضطرب".
 
مستقبل

أنهى بن عيسى مداخلته، بالإشارة إلى الجنرال شارل ديغول، الذي قال إن أوروبا الممتدة من الأطلسي إلى الأورال ستحدد إذا توحدت مستقبل العالم. وما نقوله اليوم، يضيف بن عيسى ، إن "هذا المستقبل مرهون بالشراكة مع الضفة الأخرى للأطلسي التي لا محيد عنها في صناعة التاريخ وبناء الحضارة الكونية".


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في أخبار