قبل السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، كان هناك دراسات ونقاشات حول الواقع في إسرائيل من حيث طبيعة النظام السياسي وما يحدث من صراع لأسباب شخصية وأيديولوجية (نتنياهو ودرعي وهوية الدولة)، وجاهزية الجيش الإسرائيلي من حيث استطاعته على مواجهة ساحات متعددة في نفس الوقت وقدرته على ذلك عدة وعدداً، وبالذات القوات البرية فيه، بسبب من خطط تقليص عدد الجيش النظامي وتحويله إلى مفهوم "الجيش الصغير والذكي".
وكان للأسف الشديد هناك مُحللين كثر في "محور المقاومة" يقلّلون من قدرة الجيش الإسرائيلي، بل يرون أن ما كان يحدث من صراع داخلي على هوية الدولة في إسرائيل وعلى محاولة السيطرة على المنظومة القضائية عبر تشريع قوانين تهدف بالأساس إلى حماية بنيامين نتنياهو ومعه آرييه درعي، تمثل عائقاً كبيراً أمام الدولة لِخوض حروب كبيرة، وأكثر من ذلك كان هؤلاء المُحللين يتحدثون وكأن الجيش الإسرائيلي غير جاهز ولا يستطيع القيام بحروب شاملة وفي عدة جبهات.
في نفس الوقت، كان هناك البعض القليل من المُختصين بالشأن الإسرائيلي يرون أن طبيعة الصراع في النظام السياسي الإسرائيلي لا يعكس نفسه بالضرورة على الجيش، رغم كل التضخيم الإعلامي الإسرائيلي حول رفض الخدمة أو التهديد بعدم الخدمة في الجيش إذا استمرت الحكومة اليمينية المتطرفة في إصلاحاتها القضائية، وأن قضايا الأمن في إسرائيل تعلو فوق كل شيء، وأي تهديد قد تتعرض له الدولة لن يتردد أحد في الدفاع عنها، بل التهديد سيؤدي لوحدة النظام السياسي وإلى تماهي الجميع تحت هدف امني واحد، وهو حماية أمن المستوطن والمستوطنة.
كان هؤلاء المُحللين القلة يرون إسرائيل بعيون إسرائيلية وأميركية وليس بعيون وتقديرات نابعة من تطور قدرات "محور المقاومة" عدة وعدداً، وأذكر في أحد النقاشات التي تمت عبر الزوم في حلقة أكاديمية روسية أن احد المطلعين على الواقع الميداني من جبهة لبنان تحدث وكأن الإسرائيلي عاجز عن مواجهة غزة فكيف سيواجه لبنان "رحمه الله"، يومها لم أكن أعرف من هو، ولاحقاً بعد استشهاده ورؤية صورته عرفت من هو. على كلّ يومها طلبت الرد، وقلت مع كل الاحترام هذه تقديرات غير واقعية والتوجه في إسرائيل هو حرب تدميرية وسردية الحرب الوجودية المُعلنة وحرب الاستقلال الثانية ليست عَبثية، بل هي تأكيد على أن إسرائيل المؤسسة أخذت قراراً بالحرب الشاملة وعلى كل الجبهات، وأنَّ جبهة لبنان قادمة بعد غزة إن لم تكن خلالها، وأنَّ الاأميركي أيضاً أخذ قراراً ليس فقط بالوقوف بجانب إسرائيل، ولا بتزويدها بالسلاح فقط، بل بتمكينها من الانتصار، وأن لا بديل لإسرائيل بعد السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، سوى تحقيق انتصار واضح لا غبار عليه، وبما يؤدي إلى تفكيك "محور المقاومة" الذي أصبح يشكل قلقاً للأميركي وللإقليم ككل.
بعد السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، انقسم مُحللو "محور المقاومة"، حيث أصبح الفلسطينيون منهم يرون وجوب الحرب الشاملة وعلى كل الجبهات وليس الذهاب نحو جبهات إسناد فقط، ومن كان منهم يُشكك بقدرة الجيش الإسرائيلي، وخاصة قواته البرية، تراجع عن ذلك، في حين بقي أصحاب فكرة أنَّ إسرائيل غير قادرة على فتح جبهة أخرى وبالذات جبهة الشمال يتمترسون حول موقفهم ويصرون على أنَّ إسرائيل لن تذهب إلى حرب شاملة مع المقاومة اللبنانية، وكما يبدو هناك قصور كبير في فهم طبيعة الدولة الإستيطانية المسماه إسرائيل، وقصور في النظرة الأميركية لهذه المستوطنة، لدرجة أنَّ بعضهم كان يعتقد بدرجة كبيرة أن هناك مصالح أميركية في المنطقة تمنعها من إعطاء ضوء أخضر للكيان المحتل للقيام بمغامرات وحروب في المنطقة، معتقداً أنَّ ذلك يَضر بمصلحة الولايات المتحدة الأميركية، ونسي أو لم يفهم أنَّ المصلحة العليا التي لا يعلو عليها شيء بالنسبة إلى أميركا هي إسرائيل، وبعدها تأتي المصالح الأخرى، فلا مصالح أخرى أصلاً بدون دولة المستوطنين إسرائيل القوية والمنتصرة، لأن وظيفتها بالأساس هي المحافظة على تلك المصالح، ولا أحد غيرها في المنطقة بقادر على ذلك، طبعاً عدا عن الارتباطات الأخرى كمفهوم صهيوني مُعَوّلَمْ.
بعد السابع من تشرين الأول (أكتوبر) وحتى الآن للاسف، لا يزال الكثير من المُحللين وبالذات المتخصصين بالشأن الإسرائيلي يعيشون حالة توهان نتيجة الضخ الإعلامي الهائل الذي تُورده وسائل الإعلام الإسرائيلية، لدرجة أنهم يعتقدون أنَّ بعض المقالات أو بعض الأخبار أو حتى بعض التصريحات هي التي تُشكل السياسة الإسرائيلية إن كانت من حيث ما تريده حكومة اليمين المتطرف وعلى رأسها نتنياهو أو المفاهيم الأمنية الاستراتيجية الجديدة للمستوطنة المسماة إسرائيل.
لذلك، هناك ضرورة لتوضيح بعض الأمور التي أصبحت هي ألف باء السياسة في إسرائيل، خاصة بعد زلزال السابع من تشرين الأول (أكتوبر) وتداعياته التي لا تزال حاضرة وتتدحرج بشكل سريع، وبحيث من خلالها يُمكن فهم التوجهات الاستراتيجية الحقيقية لدولة المستوطنة إسرائيل، إلى جانب القضايا التكتيكية التي تخص مفهوم البقاء الائتلافي اليميني الذي يترأسه نتنياهو، وهنا نشير إلى أنَّ العناصر الجديدة هي التي تُحدد الواقع الجديد في كل الجبهات القريبة واللصيقة (لبنان، سوريا، غزة، الضفة)، وأيضاً الجبهات المحيطة (اليمن والعراق وإيران)، وهذه العناصر تتمثل بما يلي:
أولاً - اعتماد مفهوم المنطقة العازلة... لا عودة لمستوطني الشمال والجنوب بدون ذلك، ولا أمن يمكن الحفاظ عليه ومنع سابع تشرين أول (أكتوبر) بدونه، والتوغل في سوريا يعد جزءاً من ذلك، والمنطقة العازلة في غزة أصبحت وكأنها أمر واقع، أما في لبنان فيتم العمل عليها بتسارع كبير عبر ما تم من تدمير شامل لكل القرى المتاخمة للحدود، واستمرار ذلك حتى في ظل اتفاقية وقف إطلاق النار، وعبر الحديث عن عدم الانسحاب من كل الأراضي اللبنانية حسب الاتفاق، لكن قد يتم التعامل مع لبنان بطريقة أمنية بدون التواجد الفعلي، بل بوضع شروط جديدة تجعل من الحضور المباشر وكأنه واقع.
ثانياً - سياسة "المنع" و"الإحباط" كبديل عن سياسة "التحذير" و"الدفاع"، وهذه السياسية يتم فرضها بشكل واضح عبر الغارات الجوية اليومية والتوغلات المستمرة في جبهة الجنوب اللبناني (سياسة حرية الحركة) وفقاً لورقة التفاهمات الثنائية الأميركية - الإسرائيلية، وبما يعني ذلك من التعامل مع كل الجبهات بنفس الطريقة في سوريا، وبما فيها أيضاً الجبهات المحيطة أي اليمن وإيران والعراق، ووفقاً لمفهوم الاحتياج الأمني لمنع تطوير القدرات من جهة، وإحباط النوايا وفقاً لتقديرات المؤسسة الأمنية من جهة أخرى. أما جبهة غزة، فقصتها أكبر من ذلك بكثير حيث يرونها ساحة كما الضفة الغربية.
ثالثاً - لا دولة فلسطينية بجانب الدولة المستوطنة إسرائيل، ولا أمن غير الأمن والجيش الإسرائيلي بين البحر والنهر، ويُسمح بوجود تشكيلات أمنية محلية في الضفة وغزة شرط أن تكون تحت الإشراف الإسرائيلي وبمساعدة أميركية مباشرة وتعاون مع دول إقليمية محددة.
إقرأ أيضاً: خيارات نتنياهو والضغط الأميركي وما بعد غانتس
رابعاً - المستوطنة المسماة إسرائيل وبدعم أميركي لا محدود، لها فضاء أمني استراتيجي يشمل منطقة غرب آسيا بالذات وشمال أفريقيا كتقدير مستقبلي، وهذا يعني إحداث تغيير جيو سياسي أمني أولاً، وجغرافي (تقسيم المُقسم وتجزيء المُجزأ) ثانياً حين الاحتياج، أي فرض معطيات سياسية في تلك الدول بحيث تؤدي إلى رؤية جديدة لأي نظام سياسي قائم.
وفق العناصر أعلاه، يمكن قراءة مشهد الحديث عن صفقة تبادل الأسرى ووقف الحرب والانسحاب الشامل من قطاع غزة، ورؤية مشهد لبنان وسوريا المستقبلي من وجهة نظر الدولة المستوطنة إسرائيل طبعاً، ورؤية المشهد القادم في اليمن وإيران وممكن العراق أيضاً، لذلك فإنَّ مشهد عام 2025 هو مشهد استمرار الحرب، أي أنه سيكون "عام حرب" كما السابق، لكن وتيرتها وطبيعتها تُحدده الوقائع على الأرض، ومن يريد أن يفهم حقيقة ما يجري، عليه متابعة تحركات وخطط وزير الشؤون الاستراتيجية، الوزير رون دريمر، لأنه هو مع نتنياهو يرسمان الخُطط المستقبلية وبما يخدم الاستراتيجية الأمنية والسياسية للمستوطنة المسماة إسرائيل من جهة، والحفاظ على تماسك الائتلاف الحاكم من جهة أخرى.
خلاصة القول لا صفقة دون أن تَتَحقق رؤى الدولة المستوطنة إسرائيل وبقيادة نتنياهو بالذات تجاه غزة، وكل شيء يتم تنسيقه مع الأميركي وبالذات مع إدارة الرئيس المنتخب دونالد ترامب، والهدف هو إفشال الصفقة وتحميل حماس مسؤولية ذلك أمام ترامب بهدف تحقيق تلك الرؤية، وكما قلنا في تشرين ثاني (نوفمبر)، موضوع الاسرى والمُحتجزين ليس بذي قيمة عند نتنياهو ومخططاته، والفرق بينه وبين المؤسسة العسكرية والأمنية أنهم يريدون الأسرى عبر صفقة حتى لو أدت إلى وقف الحرب والانسحاب من قطاع غزة (تأجيل مؤقت لتنفيذ الرؤية)، بينما يرى نتنياهو أنَّ الدولة المستوطنة إسرائيل تُحقق إنجازات كبيرة يجب أن تستمر فيها، ولا تلتفت كثيراً إلى عقبة الأسرى، لذلك يتلاعب نتنياهو بالجميع داخلياً وخارجياً، ولكنه يُرسل وزيره المقرب دريمر للتفاهم مع إدارة ترامب حول كل شيء، وبالذات حول الدعم الأميركي لما تريده الدولة المستوطنة إسرائيل كإحتياج أمني واستراتيجي، يُعيد لها ليس مفهوم "الردع" وإنما مفهوم "الجيش الذي يستطيع الوصول إلى أي مكان في كل منطقة غرب آسيا وشمال أفريقيا (الشرق الأوسط)"، أي العودة لمفهوم "الجيش الذي لا يقهر".
إقرأ أيضاً: من النكسة إلى الوكسة سنرى ليلاً مُلتهباً
وبما يتعلق بالجبهة اللبنانية، فقضية إطلاق يد الجيش وسُهولة الحركة أصبحت واقعاً أمنياً ويومياً في الجنوب اللبناني، وسوف تستمر كسياسة دائمة، إلا إذا حدث ما يعيد للردع توازنه، وهذا كما يبدو لا يلوح في الأفق القريب، خاصة أنَّ المشهد الرسمي "السوري" داعم للتوجهات الإسرائيلية تجاه الفهم الأمني للجبهتين "السورية واللبنانية"، ووحده ظهور شيء اسمه "المقاومة السورية"، للاحتلال سيخربط الأوراق ويفرض على دولة المستوطنة إسرائيل البحث عن حلول أخرى اساسها العودة إلى تفاهمات عام 2006.
أما في ما يتعلق بالجبهات المحيطة، فيبدو أنَّ عام 2025 هو العام الذي سيتم استهدافها بشكل مباشر وبدعم ومشاركة أميركية مباشرة، وبالذات بما يتعلق بِإيران، لأنَّ تنفيذ الخطط الاستراتيجية الأمنية لا يمكن أن يتم بدون توجيه ضربة كبيرة وقاصمة للرأس، ولذلك قلنا إنَّ عام 2025 هو "عام حرب"، لأن أي ضربة لرأس محور المقاومة ستؤدي بالضرورة وبالحد الأدنى لتبادل الضربات بين الطرفين، هذا إذا لم تقود إلى حرب شاملة، أمَّا اليمن، فسوف تستمر سياسة الهجمات الجوية الإسرائيلية الأميركية البريطانية، مع تفعيل الحرب الأهلية من جديد إن أمكن.
دولة المستوطنة إسرائيل حققت إنجازات تكتيكية كبيرة بسبب التقديرات الخاطئة لدى قيادة دول وجبهات "محور المقاومة"، ونظرتها القاصرة لتوجه هذا الكيان بعد السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، لكن مع التطورات الجيو سياسية في الإقليم، وظهور نظام في دمشق يبحث عن إرضاء أميركا ودولة المستوطنة إسرائيل، فأعتقد أن على كل من تعبوا من الدمار والإبادة التي اقترفتها وتقترفها دولة المستوطنة إسرائيل أن يبحثوا عن استراتيجية جديدة لا يكون "الصبر" العادي ولا الاستراتيجي عنوانها، وأول الخطوات في هذا المضمار هو استيلاد "مقاومة سورية".
إقرأ أيضاً: الجبهة الشمالية بين الردع والفعل
الخيارات يتم فرضها من قبل دولة المستوطنة إسرائيل، لذلك لا يوجد ترف من الوقت ويجب التعامل معها، إما بمفهوم انتظار الفرصة والتي لن تأتِ بالحد الأدنى في عقد من الزمن، وإما مواجهتها ومحاولة فرض معطيات على الأرض قد تسمح بالحد الأدنى للعودة للتفاهمات السابقة، وهذا غير ممكن، لأنَّ مواجهة خيارات الدولة المستوطنة إسرائيل، بالضرورة ستفرض خيارات أخرى ستأخذ المنطقة لواقع جديد سيكون للمشهد السوري فيه تأثير حاسم إذا ما ظهرت جبهة مقاومة جديدة ضد الإحتلال الإسرائيلي للأرض السورية.
الإنجازات التكتيكية التي حققتها دولة المستوطنة إسرائيل، جاءت بفضل التقديرات الخاطئة والارتكان إلى الوعود الأميركية والتخوف من انتقال الوحشية التي ظهرت في قطاع غزة (الإبادة والتطهير والتدمير) إلى بقية الجبهات، وهذا ما حدث في جبهة الشمال.