في عام 1998، أي قبل 26 عامًا، صدر كتاب "حياة في الإدارة" للرجل الذي اشتهر أديبًا وشاعرًا ودبلوماسيًا ووزيرًا. كان عمره حينها 54 عامًا، وللتو فرغ من مهمة عمله كسفير لبلده في بريطانيا.
إنه صاحب الإنجازات والمعالي ذو التاريخ المهيب والإنسان الاستثنائي الدكتور غازي القصيبي، الذي تعده جماهيره أيقونة سعودية إدارية وأدبية مختلفة جدًا، ومدهشة ومحبوبة جدًا. درس الحقوق في جامعة القاهرة، ثم أكمل دراساته العليا في العلاقات الدولية وحصل على الدكتوراه من جامعة لندن.
ومن جامعة الملك سعود (جامعة الرياض)، التي عمل فيها عميدًا لكلية التجارة - وربما اكتسب هناك شيئًا من الخصومات لمح لها في كتابه - انطلق متقلدًا العديد من المناصب المهمة خلال مسيرته المهنية، كان أبرزها وزير الصناعة والكهرباء في عهد الملك خالد، وكان رئيس الوزراء حينها الملك فهد، حيث كان له دور كبير في تأسيس البنية التحتية للصناعة والكهرباء في المملكة.
ثم اختير وزيرًا للصحة وتميز بمبادراته لتحسين الخدمات الصحية وجولاته الميدانية وقراراته القوية!
وبعد قصيدته المشهورة، غادر مجلس الوزراء ليعمل سفيرًا لدى البحرين ثم في بريطانيا، ثم عاد ليتولى مسؤوليات أخرى، وزيرًا للمياه ثم وزيرًا للعمل في عهد الملك عبدالله بن عبدالعزيز رحمهما الله. ولعله حين وجد الوقت الكافي في العمل الدبلوماسي بدأ في كتابة مذكراته الإدارية، سماها "حياة في الإدارة"، وضمنها العديد من المواقف التي ساهمت في نجاحه، كسب بها إعجاب الملايين من القراء، لكنها كشفت من جهة أخرى فشل آخرين وأوغرت - ربما - صدور بعضهم!
وكتاب "حياة في الإدارة" - الذي لم يرق لزميله في كلية التجارة ثم في مجلس الوزراء الدكتور محمد الملحم، أحد أكثر الوزراء الذين عملوا في صمت لمدة 21 عامًا - كان أحد أبرز أعمال غازي القصيبي. وقد عُدّ بمثابة سيرة ذاتية وتجربة قيادية، يروي فيه القصيبي رحلته من بداياته الدراسية إلى توليه المناصب الحكومية والدبلوماسية، متضمنًا تجارب شخصية، ومواقف إدارية، ونصائح ثمينة عن قيم الصدق والإخلاص والمبادرة والمحاسبة والقيادة الميدانية والإدارة الواعية الحازمة.
ومنذ ذلك العام الذي صدر فيه، ظل الكتاب مرجعًا لكل قائد يبحث عن التميز أو لأساتذة التدريب، تُدبج في محاضراتهم وورش عملهم أقواله وتوجيهاته وخلاصة تجاربه، كحِكم ثمينة تنير الطريق أمام الباحثين عن سر النجاح الشخصي والإداري.
وبين الشرارة الأولى في صفحة "واجهة ومواجهة" بجريدة الجزيرة قبل 26 عامًا واشتعال الحطب هذا العام، عاش الصمت وشاب، حتى انفجر الدكتور محمد الملحم في كتابٍ حمل رائحةً كريهة (كما يصفها الصحفي والإعلامي السعودي عثمان العمير)، وحمل أيضًا الاسم نفسه لكتاب غازي!
يقول في مقدمة الكتاب، الذي لم يوزع في السعودية بعد: (كمْ كُنْتُ أتَمَنَّى لَوْ أَنَّ الزميل معالي الدكتور غازي القصيبي بَعْدَ تقاعده كَسَفِيرٍ في لندن استراح في بَيْتِهِ فلم يصرف جهده لإصدار كتاب لَهُ بعنوان: "حياة في الإدارة"؛ كِتَابٌ ضَمَّنَ فيه معلوماتٍ بدُون بَرَاهِين، وَاعْتَبَرَهُ (أي غازي) أَشْبَهَ مَا يكون بكتاب منزّل)!
ورغم أن القصيبي لم يذكر في كتابه أسماءً أو يُعرّض بها، وإنما عرض فيه فلسفته في الإدارة ووجهات نظره حول القيادة الفعّالة، وتحدث عن العقبات التي واجهها خلال توليه المناصب المختلفة وكيفية تعامله معها، مع نقد ذاتي لتجربته الإدارية، لم تخل أحيانًا من توضيح لخلفيات بعض القرارات التي أصدرها أو الأحكام التي أعلنها وكانت قاسية على غيره. أقول ومع هذا، لم يسلم في قبره رحمه الله من محاولة سلبه بريقًا لم يعد بحاجة إليه!
وغازي القصيبي، الذي ترك أثرًا لا يُمحى في الأدب والسياسة والإدارة، اشتهر بشجاعته الفكرية وجرأته في التعبير عن آرائه، مما جعله شخصية مُلهمة للأجيال.
واللقاء الذي حمل الشرارة الأولى للدكتور الملحم كان قبل 26 عامًا، في الأول من نيسان (أبريل) عام 2000، عندما التقاه الصحفي الثقافي الأستاذ إبراهيم التركي ممثلًا لجريدة الجزيرة ضمن شخصيات هامة وبارزة من أمراء ووزراء ومسؤولين ومثقفين بارزين. نشر لقاءاته معهم مؤخرًا في كتاب بالاسم نفسه للصفحة وهو "واجهة ومواجهة"، وسأله حينها عن كتاب "حياة في الإدارة" لغازي القصيبي، الذي صدر وقتها قبل اللقاء بعامين، فأجاب بعبارة واحدةٍ وصفها الملحم نفسه بأنها شاملة مانعة: "أَنَّ الكِتَابَ غَيْرُ مُوَثَّقِ".
وعَلَّقَ القصيبي في الجريدة نفسها في 12 كانون الثاني (يناير) عام 2003، وضمن المواجهات المتعددة للتركي على وجهة نظر الملحم بقوله: "الملحم صديق عزيز ومَا قَالَهُ عَنْ كِتَابِي صَحِيحٌ بأنه لا توجد فيه وثيقة واحدة، فهو ليس وثائقيًا. ولم أزعم ولم أحاول أن أجعله وثائقيًا. وعندما قرأت اللقاء (الحديث للقصيبي) اتصل بي أشخاص كثيرون وقلت لهم: هذا صحيح، كلامه صحيح، هذا ليس كتابًا موثقًا بالفعل". وبين القصيبي في المواجهة نفسها مع التركي أنه ليس عنده مشكلة مع رأي الملحم.
وفي اللقاء نفسه، وإن لم يكن السياق عن انتقاد الملحم وتقييمه، قال القصيبي إنه لا ينزعج من النقد، وأنه مع مرور الزمن لم يعد يفرحه أن يمدحه أحد ولا يزعجه أن ينتقده أحد!
وزاد في إجابة أخرى على سؤال آخر: (الإنسان إذا مات يفضي إلى ما قدّم وينتظر رحمة الله، وتبقى أعماله وتبقى ذكرياته في نفوس الناس ويبقى تأثيره).
وفي حديثه عن هموم المجتمع والتنوع في الكتابة والاهتمامات، علق: (أخطر شيء يواجهنا أن نتحول إلى نسخ من بعضنا، سواء في أفكارنا أو في توجهاتنا أو حتى في إنتاجنا).
وعن التسامح، قال في موقع آخر من المواجهة: (نحن لا نزال نفتقد هذه الجرعة من التسامح، سواء في تعاملنا مع بعضنا أو في تعاملنا مع الآخر، والحوار يجب أن يكون قائمًا على الاحترام المتبادل).
-
أخيرًا - كصحفي وكاتب مهتم بالسير الذاتية - تتبعت منشأ الخلاف بين رجل القانون ورجل الإدارة، وأحببت تسجيله وشرحه. لكني، كمحب من ملايين المحبين لغازي، في حلقي غصة أن يُجرح تاريخ غازي القصيبي بعد رحيله، ومن زميله؛ وأجدني مضطرًا للتعبير عن أسفي لحديث الدكتور الملحم ولإصداره الكتاب في هذا الوقت المتأخر، الذي يبرره بلا شك ما يبرره عنده من أسباب. ووصفي لمشاعري التي أظنها تعبر عن كثيرين غيري ليس حكمًا على كتاب لم أقرأ منه سوى بضعة أسطر من مقدمته.
ختامًا لهذا المقال الذي ترددت في كتابته ونشره، ثم عزمت عليهما، أضيف سؤالًا سأله الدكتور إبراهيم التركي لمعالي الوزير محمد الملحم قبل 26 عامًا، وأتبعه بإجابته حينها؛ لعل فيها ما يفسر سر نشره لكتابه وعنونته بالعنوان نفسه!
إذا سأله صاحب المواجهة: "جئت إلى الوزارة بهدوء وغادرتها كذلك بهدوء، رغم أنك أمضيت فيها واحدًا وعشرين عامًا، وزيرًا دون شهرة أو أضواء أو تصريحات، هل هو وضع عادي بالنسبة لك يا معالي الدكتور؟"
وهذه إجابة الدكتور الملحم، الذي لا نستطيع أن نسامحه ونفعل مثل ما نتوقع أن يفعل (أبو يارا) لو كان حيًا بيننا، عليه رحمة الله: "حتى أكون معك صادقًا، دعني أخبرك أن الوضع لم يكن عاديًا بالنسبة لي في السنوات الأولى من تشكيل الوزارة. كانت رغبتي أن أكون في مركز الضوء، حتى ولو في أبسط الأمور، والسبب واضح وهو أن القرين بالمقارن يقتدي. كان البعض من رفاقي من الجامعة ممن دخلوا الوزارة معي ملء السمع والبصر بمجرد تسلمهم لوزاراتهم. ولم تتحقق هذه الرغبة بطبيعة الحال لي؛ لأن العمل الذي كنت أزاوله لم يسمح بذلك. كنت أمارس عملي في صمت".