لم يتمكن النظام السابق من تخفيف الآلام والأحزان التي خلفتها مجزرة حرب تحرير الكويت في قلوب الملايين من العراقيين، وخاصة العسكريين منهم، الذين أحسوا بالمذلة والإهانة وهم يرون الجثث المحترقة لمئاتٍ من رفاقهم الضباط والجنود، وأشلاء آلاف المعدات العسكرية المبعثرة على جانبي طريق العودة من الكويت إلى العراق.
ومعروف أن مشاهد تلك المجزرة كانت هي الشرارة التي أشعلت انتفاضة آذار (مارس) 1991، لتضاف مآسٍ جديدة إلى مآسي حرب الكويت، كلفت الشعب العراقي ثمناً باهظاً، دما وخرابَ بيوت.
ورغم كل ذلك الجحيم الذي أدخل فيه ذلك الحاكم العنيد وطنه وشعبه، فهو لم يعتذر عن تلك الخطيئة التي وصفها نائبه، بعد زمن، بأنها "خطيئة كبرى وعمل لا أخلاقي"، كما اعتذر قبله الرئيس الراحل جمال عبد الناصر الذي خرج على الأمة، بشجاعة ورجولة، ليتحمل كامل المسؤولية عن النكسة، وليعلن تنحيه عن كل منصب حكومي وعودته إلى صفوف الجماهير؛ فهبت الملايين تسامحه وتناشده العودة عن التنحي، ومواصلة النضال حتى يتحقق النصر من جديد.
ولأنَّ صاحبنا مسكون بغرور القوة والعصمة والعظمة، لم يجد قادة عراقيون كثيرون، عسكريون ومدنيون، وبدافع الوطنية والشهامة وعزة النفس، سوى اللجوء إلى التفكير بالانقلاب لمحاسبة المذنب على ذنوبه بقوة السلاح، بعد أن تعذر عليهم محاسبته بالقانون وبالأصول، هادفين إلى تحرير الوطن من جبروته وعناده وخطاياه التي أعادت الوطن عشرات السنين إلى وراء، بعد أن كان قد وضع قدمه على طريق النهوض والتحرر والازدهار.
ولأنه، كان، كما قال سفيره ورفيقه نزار حمدون في مذكراته الأخيرة، ذا نزعة فطرية للعنف والدماء، فقد استخدم أقصى أنواع القسوة ضد أي مواطن يهمس، ولو همساً، لزوجته بأنه لا يحب الزعيم.
حتى أصبح الحاكمَ الأوحد الذي جعل كلمة إعدام هي الأسرع والأسهل على لسانه، فيقتل الواحد أو العشرة أو المئة ثم ينام قرير العين.
لقد كان متوهماً بأنه الوطن والشرف والدين، ومن يخالفه يخالف الوطن والشرف والدين، وأن إعدام المئات وحتى الألوف يعد عملاً من أعمال التقوى والجهاد والدفاع عن الوطن والشرف والدين.
والسؤال المهم، هو، من قال إنَّ ملايين الآخرين المخالفين له في الرأي على خطأ، وهو، وحده، على صواب؟
إقرأ أيضاً: عن عودة رغد صدام حسين
فالمواطن يُعدم فوراً، ودون محاكمة، إذا روى نكتة، أو أخبر صديقاً برؤية في المنام، أو مزق صورة الرئيس.
وفي مقابلة تلفزيونية أجرتها معه في بغداد في 15 تشرين الأول (أكتوبر) 1990، سألته المذيعة الأميركية الشهيرة باربرا والتز: "سيادة الرئيس، هل صحيح أنك أعدمت مواطناً لأنه شتمك؟"، فرد عليها: "طبعاً، فالرئيس هو رمز الوطن، ومن يهينه يهين الوطن".
ثم سألها: "أنتم في أميركا ألا تسجنون من يهين الرئيس؟"، فضحكت وقالت له: "سيادة الرئيس، لو كنا كذلك لوجدت الشعب الأميركي كلَه في السجون".
وخلافاً لهذا الحاكم (العاقل)، كان لنا حاكم آخر كان خصومه السياسيون يتهمونه بالجنون، طلب من أكبر المحامين العراقيين أن يأخذ راحته الكاملة ولا يتحرج في الدفاع عن البعثيين الذين أمطروه بالرصاص، في شارع الرشيد، بقصد قتله، فأصابوه، وسببوا له شللاً في ذراعه، وقتلوا سائقه، وجرحوا مرافقه الوحيد.
إقرأ أيضاً: رسالة عراقية إلى السودانيين
ثم خضعوا لمحاكمة علنية، وبعشرات الشهود والوثائق، حكمت المحكمة على بعضهم بالإعدام، وبالسجن على بعضهم الآخر. وهنا ظهر الحاكم (المجنون) بذراعه المضمد على شاشة التلفزيون، ليعلن عن تنازله عن حقه الشخصي، وليصدر عفواً رئاسياً عن جميع المدانين الحاضرين والغائبين، وفق قاعدة (عفى الله عما سلف).
وما يدعو إلى العجب أن نجد، رغم كل هذا القصص والحكايا والروايات، وبعد كل ما جرى، بعضاً من العراقيين والأشقاء العرب يهتف باسمه ويحنّ لحكمه، ويخوّن كل من يُذكر بوقائع ظلمه وخطاياه، ويحصي الدماء البريئة التي سفكها، في حياته القصيرة، ولا يتقي، ولا يعدل مع الأسف الشديد.