: آخر تحديث

مابعد الموت والجان وقزلرباط

120
131
112
مواضيع ذات صلة

في مدينة السعدية "قزلرباط" كما هو اسمها الحقيقي لكن سكانها لاصليين يلفظونها "قزرابات"، وهي ناحية تابعة لمحافظ ديالى وهي مدينة زراعية بإمتياز وتكتض ببساتين النخيل والحمضيات والرمان وغيرها، وفي بداية السبعينيات من الالفية الماضية، حفزني صديق لا أتذكر اسمه للأسف على الانضمام لحلقة ذكر "دروشة" والتي كان يشرف عليها وقتئذ شاب في مقتبل العمر كان قد أطلق لحيته ويضع غترة بيضاء على رأسه.

في حلقة الدروشة هذه، التي كنا نقوم فيها بحركات نهز فيها بأجسادنا ورٶوسنا بقوة بإتجاهين حتى كنا نشعر بالدوار ونحن نردد "الله حي، حي الله"، وكما أوحى المشرف على الحلقة فإن ذلك كان سيطهرنا ويجعلنا أقرب الى الله.

وفي أحد الايام وبعد إنتهاء من تلك الحركات العنيفة، تحدث ذلك الشاب عن الحياة والموت، ووصف الحياة بأنها مجرد خيال ووهم مخادع وإن الحقيقة تبدأ وتتجلى للإنسان عندما يموت. ووجدت ما يقوله غريبا وحتى غير مقبول ولذلك بادرته بسٶال ما معنا هل إن ذلك يعني إننا الان في حالة وهم وخداع؟ فنظر لي نظرة غاضبة: فقط إنكم الان خارج الخداع والوهم وما خلاه غير ذلك. لكنني ورغم ما كان يقوم به صديقي من حركات تحثني على السكوت لكنني بادرته قائلا: حتى الصلاة والصوم وهم وخداع؟ فإستشاط غضبا ورفع صوته: أنت جاهل وجهلك هو الذي يجعلك تتكلم بهذه الصورة الشيطانية! إجابته هذه كانت بالنسبة لي بمثابة قرار فراق بيني وبين الدروشة والى الابد!

في تلك الفترة، كنا نسكن في بيت في حي الاسكان وهي بيوت بنتها الحكومة بعد فيضان حدث في المدينة في عقد الخمسينيات كما كان يقال، وكان يفصل هذا الحي عن سوق المدينة، مقبرة كبيرة نسبيا، وقررت البلدية إلغاء هذه المقبرة واستخدامها لأغراض أخرى، وطلبت من ‌أهالي الموتى أن يقوموا بنقل رفاة الموتى الى مقابر أخرى. يومها سرت شائعات كثيرة في المدينة عن قبور تم فتحها ووجدوا الموتى وأكفانهم على حالهم من دون أي تغيير على الرغم من أن بعضهم كان قد مر على موته أكثر من 70 عاما أو حتى أكثر.

وكان في هذه المدينة إضافة الى هذه المقبرة مقبرتين أخريين، إحداهما في وسط المدينة ولنا معها حكاية، والاخرى في أطراف المدينة تتجاور مع البساتين وكانوا يسمونها مقبرة اليهود، وهو ما يعني إنه كان هناك يهود ساكنين في هذه المدينة العتيقة، وللحق أقول فإن مقبرة اليهود وعلى الرغم من كونها أقدم مقبرة في المدينة لكنها كانت الاجمل وحتى إنها كانت في أيام الربيع مكانا لإستجمام العوائل حيث كانوا يشربون الشاي أو حتى يتناولون وجبات طعام.

وأعود الى مسألة الجثث التي لم تتغير وأكفانها التي بقيت على حالها، إذ أن هذا الامر قد شغل سكان هذه المدينة التي هي في الحقيقة ناحية صغيرة تحيط بها البساتين ويمر بجانبها نهر ديالى (أو سيروان كما يسمونها الكورد)، وصار حديث المدينة عن الموت وما بعد الموت، بحيث إن هذا الحديث نشر حالة من الرعب والهلع ولاسيما عن الجن والارواح والاشباح التي زعم بعضهم أنهم قد رأوها وحتى حددوا أماكنها ومن ضمنها مقبرة في وسط المدينة وبجنب بستان نخيل وبرتقال، ورووا حكايات وحكايات عن الجان والاشباح وأشكالها المرعبة مع ملاحظة إن معظم أحداث تلك الحكايات كانت أثناء الليل، ولأن بيت أختي الكبرى المتزوجة كان في مقابل هذه المقبرة التي فيها طريق ضيق يمر الى الشارع العام وكان بحق يبعث على الرعب في الليل، فقد جعلني الى فترة أمتنع من الذهاب الى بيت أختي بعد الغروب لا بل إنني إمتنعت عن الذهاب ليلا الى دار أحد أقاربنا وهو المرحوم "علي رضا جاف" الذي كان من وجهاء المدينة ومعروف فيها، حيث كان هناك صديقين لي!
في هذه الفترة من حياتي، تملكني خوف رهيب من الموت وصرت أواظب على الصلاة والصوم أيام الاثنين والخميس، وذات يوم وأنا في الصف الاول في ثانوية السعدية، سرح فكري في قضية الموت وكان ذلك في درس قواعد اللغة العربية حيث كان يدرسنا مدرس إسمه عبدالرزاق الذي إنتبه الى سرحاني لكنه إكتفى بأن ربت على كتفي غير إنه وبعد نهاية الدرس سألني: مالذي جعلك تسرح بهذه الصورة؟ فقلت: الموت ومابعد الموت؟ فضحك وقال ولماذا لاتفكر بالحياة وما ينتظرك من مستقبل فيها؟

وعندما حدثته عن ما حدث في تلك المقبرة وعن الجن والاشباح، فقال: هل رأيت ذلك بعينيك؟ فقلت كلا فقال: هل حدث أمر ما لأحدهم بسبب الجن والاشباح؟ فقلت كلا. فقال وبحزم لفت إنتباهي كثيرا: ما تحدثت به كله هراء، وإذا سلمت نفسك لذلك فسوف ينتهي أمرك الى الجنون أو حالة من عدم الاتزان وبدلا من النظر الى المقابر واللهاث وراء الاشباح والجن، تمعن في المناطق الجميلة في مدينتك وأمنح خيالك لما تقرأه من الكتب. 

ثم قال لي هذا المدرس؛ بأن ما أتحدث به هي حالة تمر بالكثيرين في هكذا مرحلة من العمر، لكنها مجرد مرحلة سرعان ما تنتهي والذي يخرج منها قويا متماسكا فسيكون كذلك طوال حياته أما الذي يخرج منها مهزوما فسيكون ضعيفا مترددا مهزوزا طوال حياته. وأعترف بأن نصيحة الاستاذ قد أعادتني الى صوابي ووعيي وطويت تلك الصفحة المرعبة من حياتي الى الابد.

من قزرابات لم يبق لي من متاع وذكرى سوى صديق واحد إعتبره صديق طفولة لأنه عندما إنتقل أهلي الى هناك كنت في الصف السادس الابتدائي، هذا الصديق"د.صلاح بيرام"، يرجع إليه الفضل في الاتصال بي والتواصل معي منذ أكثر من عامين وهو من ساعد كثيرا على تنشيط ذاكرتي المتعبة بذكريات حياة لسعتني بسياط قسوتها بشدة الى جانب الحرب وأسر إمتد لقرابة 8 أعوام!
 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في كتَّاب إيلاف