اذا كنا نغفر للدولة والمسؤولين القائمين على خدمة مواطنينا إهمالَ الناس نتيجة ضعف الخدمات وقلة الرعاية التي تقدم اليهم وانعدامها طوال سنوات عديدة تقارب العقدين؛ غير اننا من الصعب ان نتقبل الاهمال الذي يعاني منه مواطنونا المعوّقون والذين فقدوا اجزاءً من اعضائهم وأصيبوا بعاهات جسمية سببت لهم الاعاقة.
فالكثير منهم لا يستطيع القيام بأيّ شيء وآخرون يعانون صعوبات جمة في ممارسة حياتهم على الوجه الطبيعي اذ لا بدّ من الالتفات اليهم وتقديم ما يمكن تقديمه للعناية بهم فهم أحوج الى العون والسند نتيجة اوضاعهم الصحيّة.
لا يخفى ان بلادنا قد مرّت خلال اكثر من أربعة عقود بحروب مريرة كان من نتيجتها ظهور بضعة ملايين من معوّقي الحروب الكارثية ناهيك عن الاعاقات الطبيعية التي اصيب بها الكثير من الولادات وظهور التشوهات الخلقية واختلال في الجينات بسبب ما وقع على العراق من قذائف ذات دمار شامل واستخدام اسلحة غير تقليدية على أبناء بلدي خلال سنوات حرب الخليج الاولى والثانية وما تبعها من غزو همجي وحشي شنته الولايات المتحدة على بلادي عام/2003 وما لحقه من انهيار في هياكل الدولة ومنها الهيكل الصحي، ويقدّر المختصون ان في العراق ما يربو على الاربعة ملايين معوّق بإعاقات مختلفة منها طبيعية ومنها بسبب الرعونة في استخدام السلاح الكيمياوي او البايالوجي غير التقليدي.
ومهما كان نوع العوق ونسبة العجز فيه فلا بد من ايلاء الرعاية القصوى لهؤلاء العاجزين لكي تمضي حياتهم بشكل اكثر يسرا واقل وطأة مما يعانون، ونركّز هنا على الخدمات والرعاية الصحية اول الامر للتخفيف عن كاهلهم وتوفير مستلزمات الحياة في حدها الادنى على الاقل.
لست في حاجة الى التذكير على انّ العالم المتحضر يولي لهؤلاء المعوقين المتعبين عناية اكبر مما تقدّم الى الأصحاء والأسوياء من خلال توفير التأمين الصحي المجاني وتهيئة مستلزمات الطبابة التي تعينهم كالأدوات التي تعينهم على الوقوف او الجلوس والحركة من خلال توفير الاطراف الصناعية والكراسي المتحركة وغيرها الكثير من وسائل الإعانة.
فالمعوقون في أبدانهم لم تكن يوما حائلا ومانعا لتحريك عقولهم وتنشيط مواهبهم بل بالعكس، فالله يعوّض من أٌخذ من أعضائه شيء وأفقد حاسّة وحرم خلقه من عضو نافع لكنه يعوّضه عقلا وموهبة وتنويرا في النفس.
واذا كان قسم منهم من لا يستطيع الحركة او يبقى قعيد البيت بسبب عجزه الكلي لكن نباهة فكره أثمرت للبشرية ابداعات جمّة والكثير ممن أصابهم العوَق اثْروا حياتنا علما وادبا وفنا راقيا وقدموا للانسانية خدمات ترقى كثيرا عما قدم الاسوياء من المبدعين وهم اكثر من ان يعدّوا لا لشيء إلاّ لان الخالق لا نظير له في عدلهِ وكم يكون الامر مبهجا اكثر حينما تقوم الدولة برعاية معوقيها كما ترعى أصحّائها بل ان الاولين اكثر حظوة واهتماما في تقديم الخدمات الممكنة لهم، ولنضرب مثلا على من عاصرنا الذي مات مؤخرا ممن ابتليَ بالعوق وهو "ستيفن هوكينغ" الذي ظلّ قعيد كرسيّه المتحرك طوال اربعة قرون ولم ينعم بنومٍ هادئ على سريره طوال مديد حياته وقدم ابتكاراته في علوم الفيزياء وتقف البشرية اجلالا له على ابتكاراته الخلاّقة مثلما سبقَهُ الموسيقار الشامخ "بيتهوفن" الذي لا يضارع في رقيّه وعبقريتهِ والذي امتع العالم بموسيقاه من خلال سيمفونياته وسوناتاته الساحرة، فهذا العبقري المعوّق الذي كان جنينا في بطن امه وعزمت هذه الام على إسقاطه وإجهاضه لانها موقنة انه سيولد معاقا حتما لان ثلاثة من أخوته الثمانية الذين يفوقونه عمرا مصابون بالصمم التام واثنين مصابين بالعمى وواحد متخلّف عقليا، ووالدته ايضا كانت تعاني امراضا عديدة في أحشائها واخذَ مرض الزهريّ يفعل فعله في جسدها ولكن في اللحظة الاخيرة قررت الابقاء عليه في احشائها؛ فالربّ الكبير هو الراحم على عباده وهكذا كان، وفي تاريخنا العربي نرى العديد من مبدعينا المعاقين الذين اثروا الانسانية بعطائهم سواء من الاسلاف أومن الاخلاف امثال ابو العلاء المعري وبشار بن برد والخطاط الذي لا يضاهيه أحد في عصرهِ ابن مقلة يوم قطعت يده المبدعة اليمنى فاستعان باليسرى ثمّ قطعوا لسانه لكنه مرّن يده اليسرى وأبدع اكثر مما كان من الاول، والامام الترمذي صاحب السنن الذي يعدّ مرجعا امينا للاحاديث النبوية وسيرة الرسول (ص).
ومن قادة الفتوحات الاسلامية موسى بن نصير الذي أوسع رقعة البلاد الاسلامية وهو المصاب بعرَجٍ شديد واعوجاج في ساقيه ومثله الأحنف بن قيس ومن المحدثين طه حسين الأعمى ومصطفى صادق الرافعي الأصمّ اللذان ابتكرا النهج السليم لكتابة النثر العربي المعاصر والمقالة الحديثة بالاسلوب والطريقة التي نقرأها الان.
هلاّ سعيتم وحثثتم الخطى لانتشال معوّقينا من الوضع المزري الذي يعيشونه اليوم ايها الساسة المسؤولون على هذا الشعب المقهور وخاصة شريحته المعاقة وليتكم تبدأون بالمعْوزين والفقراء منهم عسى ان تخففوا من الأعباء التي أثقلت كاهلهم، لا نريد عطفا وانكسارا وجبرا للخواطر وتأسّيا فارغا لا يسمن ولا يشفي ولا يغني عن حاجة، شـــمّروا عن سواعدكم وأعطوهم ما يحتاجونه من علاج ورعاية واهتمام ليشعروا انهم ما زالوا في عداد الأحياء الفاعلين في المجتمع، وكم يحزّ في نفوسهم حينما يشعرون انهم منسيـون ويعيشون مهمشين وكأنهم ينتظرون موتهم بين لحظة واخرى فارحموا من في ارض السواد من معوقينا عسى ان يرحمكم الخالق الرؤوف الذي وسعت مغفرته كلّ الذنوب والآثام الكثر التي اقترفتموها.
[email protected]