لقد صار قلبي قابلا کل صورة
فمرعى لغزلان، ودير لرهبان
وبيت لأوثان، وکعبة طائف
وألواح توراة، ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنى توجهت
رکائبه، فالحب ديني وإيماني
أبيات للخالد محي الدين أبن العربي، تبهر قارئها لأنها تجمع معا الرقة والشفافية والعمق، لکن ومع أهم وأروع ما فيها هو ترکيزها على الحب، والحب هنا وإن کان بمعناه الصوفي، لکن ذلك لا يعني أبدا إلغاء أو إقصاء بعده الانساني، ذلك إن أبن العربي هو قبل کل شئ مجرد إنسان ولا يمکن أن ينضو إنسانيته أبدا، وعندما نبحر مع هذا التسامي العاطفي ونشعر بلذة روحية لا مثيل لها في التجسد والتعبير کما أبدع أبن العربي، فإننا لا نغالي إذا ما قلنا بأنه قد تجاوز المألوف والمحدود بکثير.
عندما يقوم أبن العربي بإدافة البعد الوجداني للذات بالبعد الموضوعي ويشرع برش سماء الوجد الانساني بشذرات اليقين کأنها النجوم في عز تألقها في کبد السماء، فإنه يدعو وبأرق اسلوب وطريقة لمعرفة أغوار الدين کملاذ لهجوع الانسان في صفاء وخلوة لا صفاء ولا خلوة بعدهما.
إلغاء المساحات وتجاوز الفروق وجمع الاضداد في داخل قلب واحد کما فعل أبن العربي، لا نجد له مثيلا إلا في أبيات للشاعر الصوفي "أبو سعيد أبو الخير" والذي ترجمنا شعره من الفارسية للعربية حيث يقول:
لو صرت ترابا لأصبحت لترابك ترابا
لأني صرت لترابك ترابا فقد تطهرت
هذا التداخل والفناء في الآخر ليس فناء تقليدي بل إنه تأکيد هنا على إن الفناء هو الإحياء والبعث، وأبو الخير هنا کأنه يحاجج محمد إقبال في رائعته "حديث الروح" عندما يقول:
ومن رضي الحياة بغير دين
فقد جعل الفناء لها قرينا
أبو الخير کأنه يجعل الفناء في الحب هو المعنى والتعبير الوجداني للدين، وبهذا فإنه وعوضا من أن يتحدث بالتهديد والوعيد، ينث أريج حب يأخذ بلب الانسان ويضعه من خلال ذلك في روضة يثمل فيها أيما ثمالة من دون قطرة خمر!
هذا الى جانب إن أبو الخير يعطي ما يمکن وصفه بمعنى موغل في العمق للحب، معنى يتجاوز شعر الغزل التقليدي ولا يمکن مقارنتهما أبدا، ذلك إن القول المأثور "أجمل الشعر أکذبه"، لا يمکن سحبه أبدا على ما قاله أبن العربي وأبو الخير ومن حذا حذوهما، فالصدق هنا ليس مفترض وإنما مشترط بإلحاح.
الحب ببعده الصوفي کما جاء فيما قاله أبن العربي وأبو الخير، حيث إن أبن العربي ومن خلال إلغاء المساحات وتجاوز الفروق وجمع الاضداد في داخل قلب واحد، وأبو الخير من خلال فنائه حبا في الآخر لم نجد مايبزهما ويتفوق عليهما إلا ما جاء في قوله تعالى في سورة الاعراف: "فلما تغشاها حملت حملا خفيفا" وهذه الصورة القرآنية المذهلة بحق مع الاخذ بنظر الاعتبار إنها بمثابة أروع وصف للتواصل الجسدي بين الرجل فإنه وفي نفس الوقت أبدع صورة للتداخل العاطفي والروحي بين الرجل والمرأة ذلك إن التغشية هنا بمعنى تداخل کائنين ببعضهما مع المحافظة على خواصهما تماما کتداخل غيمتين ببعضهما مع الاحتفاظ بشکليهما وخواصهما.