لم يكن دور الوساطة المهم الذي لعبته الدبلوماسية الصينية، وقيام الرئيس شي جينبينغ باستضافة ممثلي المملكة العربية السعودية وإيران في بكين، دوراً عابراً، ولا مجرد "مشهد" حرصت الصين على الظهور فيه لإرسال رسالة سياسية معينة إلى "أطراف دولية أخرى"، بل كان إستراتيجية محددة المعالم للصعود الصيني، والبحث عن المصالح في منطقة ظلت لعقود طويلة تعد تلقائياً ضمن مناطق النفوذ الأميركي.
حرصت الدبلوماسية الصينية على مواصلة مهمة تقريب المسافات بين السعودية وإيران، واستضافت لقاء وزير الخارجية السعودي، الأمير فيصل بن فرحان، ونظيره الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، وتحول مشهد المصافحة الذي تم برعاية وتشجيع تشين غانغ وزير الخارجية الصيني، إلى قصة إخبارية تداولتها وكالات الأنباء، حيث أثمر اللقاء عن تحديد موعد وآليات تنفيذ تبادل البعثات الدبلوماسية، ونقل عن الوزير الصيني قوله "بكين تحاول دعم دول الشرق الأوسط للسيطرة على مصائرها في مواجهة أي تأثيرات خارجية، والحفاظ على مستقبل المنطقة بـأسرها".
الملاحظ أن لقاء وزيري خارجية البلدين، والذي جاء بناء عل إتفاق العاشر من مارس الماضي، قد تم قبل أقل من شهر، استعداداً لتنفيذ الإتفاق على إستئناف العلاقات الدبلوماسية بين البلدين في غضون شهرين، ما يعكس حرص الدبلوماسية الصينية على إنجاح الإتفاق وتحويله إلى واقع يسهم في إعادة "هندسة" العلاقات الإقليمية في منطقة الخليج العربي وفق ما يتماشى مع المصالح الإستراتيجية الصينية.
وجود الجانب الصيني في مشهد اللقاء بين وزيري خارجية السعودية وإيران، يضفي قيمة نوعية لا يمكن إغفالها على استئناف العلاقات بين البلدين الخليجيين، فالمشهد يعكس القاء بكين بثقلها السياسي والإستراتيجي وراء هذه المصالحة التاريخية، ولا تكتفي فقط بعقدها، بل تسعى إلى تفعيلها وترجمتها إلى خطوات إنفراج حقيقية على أرض الواقع، حيث يعتقد معظم المراقبين أن الرعاية الصينية للإتفاق تمثل ضمانة حقيقية لتحقيقه بالنظر إلى قدرة بكين على ضمان إلتزام الجانب الإيراني.
التوافق بين السعودية وإيران، القوتان النفطيتان، يعني قدرة الصين على ضمان الإستقرار في أسواق الطاقة العالمية، لاسيما أن بكين تمتلك علاقات إستراتيجية قوية مع قوة نفطية أخرى مثل روسيا والإمارات، وهذا سينعكس بطبيعة الحال على مكانة الصين ونفوذها العالمي، حيث يتوقع أن ينعكس هذا التوافق على ملفات إقليمية أخرى في الشرق الأوسط.
ورغم أن الوساطة الصينية في أزمة أوكرانيا وصلت إلى طريق مسدود بعد أن أستبعد الكرملين قبولها بعد أن وعد بدراستها، حيث قال المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف مؤخراً "تحظى الصين بإمكانية هائلة وفعالة حينما يتعلق الأمر بخدمات الوساطة"، لكنه أضاف "أن الوضع مع أوكرانيا معقد وليس هناك أي أفق لحصول تسوية سياسية. وفي الوقت الحالي، ليس لدينا حل آخر غير مواصلة العملية العسكرية الخاصة"، فإن الصين لن تتوقف عند هذا الحد، لاسيما أن بكين لم تكن تعتقد منذ بداية الإعلان عن مقترحها لحل الأزمة الأوكرانية أنها ستلقى قبولاً من الطرف الأميركي على وجه التحديد، وربما جاءت المفاجأة في إستبعاد الجانب الروسي لها، رغم إعلان قمة موسكو التي عقدت في مارس الماضي عن "حليفين إستراتيجيين" مصممين على مقاومة :"الهيمنة الأمريكية"، ما يعني أن هناك مساحة مصالح كبرى لا تزال تفصل بين الرؤيتين الصينية والروسية، وهذا يصب في مصلحة الولايات المتحدة والغرب بشكل عام.
المسألة تتعلق بأن الصين لم تعد تكتفي بدور المراقب لتفاعلات النظام الدولي، بل باتت تشارك كطرف فاعل ومؤثر في جهود الوساطة والبحث عن تسوية للأزمات، بغض النظر عن نجاح أو فشل هذا الدور، حيث لا يمكن النظر إلى فشل الوساطة الصينية في أزمة أوكرانيا كدليل على ضعف النفوذ الصيني أو فشل دبلوماسية الوساطة، لأن الأزمة الأوكرانية تمثل إستثناء من أي حسابات بالنظر إلى حساسية علاقة أحد أطرافها (الولايات المتحدة) مع الصين، وتحفظ الآخر (روسيا) على أي وساطة لا تضمن مبدئياً مسألة إحتفاظه بالأراضي التي تمت السيطرة عليها في الحرب، علاوة على أن المقترح الصيني، الذي لم يكشف عن الكثير من محتواه، قد شدّد على أمور لن يحظى بعضها بموافقة روسيا مثل إحترام سيادة ووحدة أراضي الدول الأخرى، باعتبار ذلك من المبادىء الدولية التي تتمسك بها الدبلوماسية الصينية أشد التمسك لارتباطه بقضايا وطنية صينية مصيرية مثل إستعادة جزيرة تايوان، ورفض بكين تدخل الدول الأخرى في هذا الملف.
في مجمل الأحوال، تتجه الصين خلال الفترة المقبلة إلى لعب أدوار فاعلة في مختلفة القضايا والأزمات، ويمكن أن تطرح نفسها وسيطاً في أزمات حيوية في إفريقيا وآسيا، وهذا الأمر يصب في مصلحة الأمن والإستقرار الدوليين بالنظر إلى أن أي جهد يستهدف تحقيق السلام هو جهد يستحق الدعم والتشجيع.