يمکن في أغلب الاحيان للنظم الدکتاتورية أن تتخطى أحداثا وتطورات طارئة أو محددة الابعاد والاهداف وأن تستعيد زمام الامور بعد فترة من الفوضى والتوتر وتجعل الاوضاع کما کانت من قبل تماما. لکن، وفي أحيان أخرى، ومع مواجهة هذه النظم لأحداثا وتطورات تبدو في الواقع کأحداث سبقتها غير إنها ومع مرور أيام وأسابيع غير عادية تثبت بأنها أکبر من مجرد أحداث وتطورات طارئة أو عابرة، بل إنها تتخطى ذلك وبوتائر سريعة تتجاوز التصورات والتوقعات التقليدية بکثير، خصوصا عندما تفرض مقومات واحداثيات جديدة لها على الواقع.
في يوم 16 سبتمبر 2022، وعندما قامت ما تسمى بدوريات الارشاد التابعة للشرطة الايرانية بقتل الشابة الکردية مهسا أميني، وإندلعت على أثره إحتجاجات تطورت لتصبح إنتفاضة غير عادية ضد النظام، والذي لفت النظر کثيرا، إن النظام وعلى الرغم من إنه إستخدم طرقا أساليب أکثر قسوة ودموية من التي إستخدما ضد الانتفاضات السابقة بوجهه، لکنه مع ذلك فشل فشلا ذريعا بإخمادها وإستمرت مجسدة بذلك لواحد من أهم مبادئ ثورة الامام الحسين "ع" بإنتصار الدم على السيف.
عدم جدوى القبضة الحديدية وسياسة الحديد والنار، واحدة من أهم المقومات التي فرضتها إنتفاضة 16 سبتمبر على النظام الايراني، وحتى إن حديث خامنئي بمناسبة عيد رأس السنة الايرانية الجديدة والتي رکز فيها وبشکل غير عادي على العامل الاقتصادي، فإنه قد جاء کمغازلة واضحة جدا للشعب الايراني وتأکيد على إن النظام سيسعى من الان فصاعدا من أجل تحسين الاوضاع المعيشية ومع إن خامنئي لم يعمد أبدا للتصدي لموضوع الحرية التي هي أساسا السبب الجوهري وراء إندلاع إنتفاضة 16 سبتمبر، لکن صحف النظام وبعضا من مسٶوليه الادنى شرعوا في طرح هذا الموضوع.
خامنئي وعندما إنبرى وبشکل خاص وفي مناسبة عيد رأس السنة الايرانية للحديث عن ضرورة العمل من أجل إحداث تغيير إيجابي في الاوضاع الاقتصادية، فإنه کان يسعى من أجل التغطية على موضوع الحرية، لکن هذه التغطية فاشلة وعقيمة ولايمکن أن تحقق أية نتيجة للنظام لکونه مجرد هروب للأمام ولن يغير من واقع الازمة السياسية ـ الفکرية ـ الاجتماعية الحادة التە يواجهها النظام.
عالم الاجتماع الايراني أمان الله قرائي مقدم، وخلال مقابلة له أکد ضمنا وبصورة ملفتة للنظر إن الجيل الشاب صار يرفض الاستبداد وما يملى عليه من قبل النظام ويريد شيئا مغايرا عندما قال: "الجيل الشاب تغير ولا يقبل الفرض. أظهرت التجربة أنه كلما كان هناك إكراه وفرض في القضايا الاجتماعية والأيديولوجية، ستكون النتيجة عكس ذلك… شباب اليوم مستقلون وعقلانيون. إنهم يتبعون عقولهم ومعرفتهم وفهمهم، وليس ما تريده الحكومة"، لکن يجب هنا ملاحظة إن قرائي مقدم قد تعمد بالطبع أن يجعل الحکومة وليس النظام في فوهة المدفع في حين إن الحقيقة غير ذلك تماما.
لکن قرائي مقدم، لم يقف عند هذا الحد، بل إنه تجاوزه عندما إعترف بأن يوم 16 سبتمبر حيث الانتفاضة الشعبية العارمة قد أصبح بمثابة تأريخ فاصل بالنسبة للنظام ولا يمکن العودة لما قبله عندما قال: "لن يعود المجتمع إلى ما قبل 6 أشهر وها هم صانعو السياسة الذين يجب عليهم أن يتغيروا، لأن الشباب يسلكون طريقهم الخاص"، من هم صانعوا السياسة في النظام الايراني؟ هل هناك من صانع غير خامنئي نفسه!! وهنا يجب أن نشير لملاحظتين مهمتين جدا يجب أخذهما بنظر الاعتبار بالنسبة لما قاله عالم الاجتماع هذا وغيره بشأن التطورات والمستجدات التي فرضتها إنتفاضة 16 سبتمبر وهما:
الملاحظة الاولى: لا يمکن نشر هکذا مقابلات تثير هکذا مواضيع تتناقض وتتضاد مع نهج النظام بدون السماح من قبل رقابة النظام الصارمة، والهدف من وراء ذلك بمثابة تنفيس وحتى إمتصاص لشاعر السخط والغضب لدى الشعب الايراني.
الملاحظة الثانية: هذا النظام ومهما کثر الحديث فيه بخصوص حدوث التغيير فيه، فإن ذلك مجرد کلام لن يکون له من أي صدى أو تجسيد في الواقع، ذلك إن نهج هذا النظام أي مبادئ ومفاهيم نظرية ولاية الفقيه، غير قابل للتغيير وکل من يتصور خلاف ذلك فإنه يعيش أحلام يقظة ليس إلا!
بعد أن إعترف النظام بأن إنتفاضة 16 سبتمبر، تأريخ فاصل ولايمکن العودة لما قبله، فإن السٶال الملح هو؛ هل سيتمکن النظام التعايش مع هذه الحالة المستجدة طويلا ويتأقلم معها؟ ذلك هو المستحيل الذي يحلم به خامنئي ونظامه وإن الايام القادمة ستٶکد ذلك.