قامت إسرائيل مؤخراً بعدة حروب ضد أعدائها مستخدمة مختلف أدوات الحرب، بدءاً من القوة العسكرية، ومروراً بالتكتيك السياسي، فالتجييش الإعلامي، وسيكولوجية المظلومية الحضارية.
كل ذلك لضمان الهزيمة الشاملة لخصومها، لا سيما أنها متفوقة على أعدائها بمعظم الأدوات التي استثمرتها في حروبها، بالرغم من أنها هي المعتدية، لكن أعداءها لا يملكون التفوق السياسي والإعلامي الإسرائيليين، فضلاً عن التفاوت الكبير بين القوى العسكرية.
لم يستفد المعتدى عليهم من إسرائيل من المنجزات العصرية للأسلحة النوعية التي باتت ملك الكثير ممن يعدون للحروب الدفاعية أو الهجومية، ولا سيما توظيف التكنولوجيا الحديثة في الحروب، وأخطرها الحروب السيبرانية، وإستراتيجيات حروب "الدرون" والطيران المسيّر، وهي أسلحة تؤدي أدواراً حاسمة في الحروب الحديثة.
من غير شك تمتلك هذه الإستراتيجيات قدرات تبطل القوى العسكرية التقليدية التي تشكل قوة ضاربة في حروب إسرائيل. وبالطبع إسرائيل تمتلك أدوات الحرب الحديثة بتفوق حاسم، لكنها لا تؤمّن لها التفوق المعهود. لكن ذلك لم يخدم المعتدى عليهم من إسرائيل في فرض توازن رعب يردع إسرائيل، بل ظلت إسرائيل متفوقة تلحق الهزيمة بأعدائها.
بالرغم من أنَّ إسرائيل خاضت معاركها الأخيرة تحت عنوان الدفاع عن وجودها، مستثمرة تهور حركة حماس وقيامها بهجوم طوفان الأقصى الذي أعطى لإسرائيل الذريعة بشن حرب إبادة في غزة. وفرّعت عنها مجموعة حروب مرتبطة بالمحور الذي تنتمي إليه حماس وتتحالف معها. فشنّت حربها على حزب الله وألحقت به هزائم مصيرية، ثم شنت حرباً على إيران والحوثيين وسورية بزخم حربي متفاوت.
يلاحظ في كل هذه الحروب، باستثناء الحرب على غزة، أنَّ إسرائيل اكتفت بأنصاف الانتصارات، بالرغم من معرفتها الدقيقة بأن الانتصار الكامل هو الإستراتيجية الحقيقية لحربها.
تركت إسرائيل إتمام تلك الحروب للصراعات الإقليمية والنزاعات الداخلية، فهي لم تحطم حزب الله تماماً لتثير النزاعات الداخلية اللبنانية التي من غير شك ستنتهي بحروب مدمرة للتكوين اللبناني، وستكون نصراً لإسرائيل بالنيابة، لا يكتفي بتحطيم حزب الله بل بتحطيم لبنان بأسره. وكذلك الأمر بالنسبة إلى الحوثيين والسوريين، فالنزاعات الداخلية التي فرضتها أنصاف انتصارات إسرائيل ستكون انتصارات حاسمة تكمل أنصاف انتصاراتها بتحطيم تلك البلدان في مختلف بنى دولها العسكرية والاقتصادية والاجتماعية.
أما في نصف انتصارها على إيران، فإسرائيل تريد أن تبقي إيران عدواً مفيداً يهدد محيطها العربي، وذلك يحتم على العرب التقرب من إسرائيل ويرضخهم لسياساتهم بعيدة المدى في التطبيع، وتكريس إسرائيل القوة المتفوقة الحاسمة في الشرق الأوسط، وتهيئة المناخ لبناء ممر داوود.
حروب إسرائيل الأخيرة تقلب الحِكم التاريخية رأساً على عقب، فجوهر حرب إسرائيل هو حماية لاغتصابها فلسطين واحتلالها على عين العالم، وتأمين غطاء شرعي بصمت العالم وتأييد قواها العظمى، فهي لا تجسد مقولة حق يراد به باطل، بل هي تجسد الباطل الذي يكرس حقاً. وكذلك مقولة حين تسير الحقيقة على قدمين فلا بد أن يفتح التاريخ أبوابه لها، فإن إسرائيل كسّرت أقدام الحقيقة لكي لا تسير إلى بوابة التاريخ.
تذكرنا سياسة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في حروبه بسياسة "لورانس" في معركة الطفيلية، حيث ورط العرب بمعركة عادية، لكنه خدع القوات التركية بحفر خندق من جهة، فأوحى لها أنها جهة الهجوم، بينما هوجمت من الجانبين الآخرين. فأدت الخدعة إلى مقتلة عظيمة بين جنود العرب والترك. وسجل انتصار المعركة في سجل أهداف بريطانيا العظمى، بينما كان الخاسر هم العرب والترك في الآن معاً.
وسجل التاريخ للورانس مقولته: "إنني أكثر ما أكون فخوراً إن الدم الإنجليزي لم يسفك في المعارك الثلاثين التي خضتها لأن جميع الأقطار الخاضعة لنا لم تكن تساوي في نظري موت إنجليزي واحد. لقد جازفت بخديعة العرب لاعتقادي أن مساعدتهم كانت ضرورية لانتصارنا القليل الثمن في الشرق، ولاعتقادي أن كسبنا للحرب مع الحنث بوعودنا أفضل من عدم الانتصار".
هذه السياسة التي وُلدت من رحمها سياسة نتنياهو في أنصاف الانتصارات، فعلى خصومها أن يقتلوا أنفسهم أكثر مما يقتلهم الإسرائيليون.