: آخر تحديث
احتواء الفوضى وإعادة رسم النفوذ:

الرهان الأميركي على دمشق الجديدة

4
3
4

لم يعد من الممكن مقاربة السياسة الأميركية تجاه سوريا من خلال الإطارات التحليلية التي سادت خلال العقد الماضي، أو عبر ثنائية «النظام والمعارضة» التي حكمت مرحلة ما بعد 2011. فبعد عام كامل على سقوط نظام بشار الأسد، وصعود سلطة جديدة في دمشق، دخلت العلاقة بين واشنطن وسوريا طورًا مختلفًا جذريًا، يقوم على مزيج من البراغماتية الصلبة وإدارة المخاطر، وليس على الرهانات الأيديولوجية أو مشاريع التحوّل الديمقراطي التي تآكلت مصداقيتها في الشرق الأوسط.

هذا التحوّل لا يعني أن الولايات المتحدة باتت تنظر إلى سوريا الجديدة كشريك استراتيجي مكتمل، بل يعكس إدراكًا متقدمًا بأن لحظة التغيير التي حدثت في دمشق لم تكن حدثًا محليًا معزولًا، بل جزءًا من إعادة ترتيب إقليمية ودولية أوسع، فرضتها الحرب في أوكرانيا، وتداعيات السابع من أكتوبر، والانكشاف المتزايد لمحدودية النفوذ الروسي والإيراني في الإقليم.

منذ الأسابيع الأولى لسقوط النظام السابق، تجاوزت واشنطن عمليًا سؤال «من يحكم دمشق؟»، وبدأت بالتعامل مع الواقع الجديد بوصفه معطًى لا يمكن تجاهله.

وقد تُرجم ذلك بسلسلة خطوات عملية، أبرزها رفع تصنيف الإرهاب عن السلطة الجديدة، وتعليق العمل بمفاعيل «قانون قيصر»، في خطوة شكّلت نقطة انعطاف في مسار السياسة الأميركية تجاه سوريا.

هذه الخطوات لم تصدر عن قناعة أخلاقية أو ثقة سياسية، بل عن حسابات أمنية باردة تقوم على مبدأ «احتواء الضرورة»، أي التعامل مع الخيار الأقل خطورة في بيئة شديدة الهشاشة.

غير أن من الخطأ افتراض أن المؤسسات الأميركية تقف جميعها خلف هذا التحوّل بالدرجة نفسها من الحماسة أو القناعة. فداخل واشنطن، لا تزال هناك تباينات واضحة بين وزارة الخارجية، وأطراف في الكونغرس، وبعض الدوائر البحثية، التي تنظر إلى التغيير في سوريا بكثير من التحفّظ والشك. إلا أن الكفّة الراجحة في هذه المرحلة تميل بوضوح إلى مؤسسة البيت الأبيض، وعلى رأسها الرئيس دونالد ترامب، مدعومًا بالمؤسسة الأمنية، التي ترى في دعم إدارة أحمد الشرع خيارًا عمليًا لتحقيق المصالح الأميركية في المنطقة.

المؤسسة الأمنية الأميركية، التي خبرت كلفة الفراغ في العراق وسوريا، تنطلق من مقاربة مفادها أن انهيار السلطة الجديدة اقتصاديًا أو سياسيًا سيقود حتمًا إلى أحد أو كلا مسارين: عودة تنظيم «داعش» بأشكال جديدة، أو فتح الباب أمام إعادة تمدّد النفوذ الإيراني عبر شبكات غير رسمية. وكلا الخيارين يُعدّ تهديدًا مباشرًا للمصالح الأميركية وحلفائها الإقليميين.

في هذا السياق، أدركت القيادة الجديدة في دمشق طبيعة الإشارات القادمة من واشنطن، وأعادت صياغة خطابها السياسي والأمني بما يتلاءم مع أولويات الولايات المتحدة. فقد جرى التركيز على القدرة الفعلية على تفكيك خلايا «داعش» بفاعلية لم يكن بمقدور نظام الأسد ممارستها، كما أنها ليست بمقدور قوات قسد، إلى جانب إظهار مرونة محسوبة في قنوات التنسيق الأمني مع أجهزة استخبارات غربية.

هذا السلوك لم يمنح دمشق شرعية كاملة، لكنه نقلها إلى موقع «الشريك الاضطراري»، الذي يصعب على واشنطن تجاهله في إدارة الملف السوري.

قرار تعليق العقوبات ورفع التصنيف لا يعني، في الحسابات الأميركية، منح دمشق تفويضًا مفتوحًا أو الدخول في تحالف طويل الأمد. بل هو أقرب إلى «فترة اختبار مشروطة»، تقوم على معادلة واضحة: الانفتاح الاقتصادي مقابل السلوك السياسي والأمني. فالولايات المتحدة تدرك أن خنق النظام الجديد اقتصاديًا سيؤدي إلى انهياره، وأن البديل سيكون فوضى إقليمية تتقاطع فيها مصالح إيران والجماعات الجهادية، وهو سيناريو تعتبره واشنطن غير مقبول.

ولا تنطلق الولايات المتحدة في سوريا من طموحات جغرافية أو مشاريع سيطرة مباشرة، لكنها تمتلك «قائمة مطالب» أمنية واستراتيجية واضحة. في مقدمة هذه المطالب، قيام سلطة مركزية قادرة على احتكار العنف، وضبط الحدود، ومنع تحوّل سوريا مجددًا إلى منصة لتصدير المقاتلين أو المخدرات، وعلى رأسها الكبتاغون، إلى دول الجوار الحليفة لواشنطن.

كما تحتل مسألة تحجيم النفوذ الإيراني موقعًا مركزيًا في الحسابات الأميركية. فواشنطن ترى أن التغيير الذي جرى في دمشق أتاح فرصة نادرة لتفكيك البنية التحتية العميقة التي بنتها طهران خلال سنوات الحرب. ومن منظور أميركي، فإن سلطة جديدة ذات مرجعية سنية محلية تمتلك قدرة اجتماعية وعقائدية أكبر على اجتثاث النفوذ الإيراني مقارنة بأي نظام علماني ضعيف أو منقسم.

وفي الوقت نفسه، تدرك واشنطن أن أي صدام واسع بين السلطة الجديدة وقوات سوريا الديمقراطية يمثّل خطًا أحمر. ولذلك تعمل على دفع صيغة «لا مركزية إدارية» تتيح دمج الأكراد أو ضمان حقوقهم الأمنية والسياسية، بما يحفظ التزامات الولايات المتحدة تجاه حلفائها الأكراد، ويمنع تحوّل شمال شرق سوريا إلى بؤرة صراع جديدة.

ولا يمكن فصل هذا التوجّه عن تأثير المواقف الإقليمية لحلفاء ترامب الرئيسيين، وفي مقدّمتهم تركيا والسعودية وقطر. فهذه الدول لعبت دورًا حاسمًا في إعادة صياغة الرؤية الأميركية تجاه سوريا، عبر الدفع باتجاه دعم السلطة الجديدة باعتبارها سدًّا في وجه إيران، وضمانة للاستقرار، وشريكًا يمكن التعامل معه أمنيًا. وقد وجد ترامب في هذا التوافق الإقليمي فرصة لتقاسم أعباء الملف السوري، دون الانخراط العسكري المباشر.

في البعد الأوسع، يمكن قراءة التغيير في سوريا كجزء من الاستراتيجية الأميركية لاحتواء روسيا وإيران بشكل مزدوج، وإعادة رسم الخريطة الجيوسياسية للمنطقة في أعقاب أحداث السابع من أكتوبر. فالوجود الروسي في سوريا لم ينجح، في عهد النظام السابق، في تقديم نموذج استقرار أو في كبح النفوذ الإيراني، ما جعل الرهان عليه خيارًا خاسرًا من وجهة نظر واشنطن.

بناءً عليه، يُرجّح أن تستمر التوجّهات الأميركية الحالية تجاه سوريا على المسار نفسه طوال فترة ولاية ترامب، طالما التزمت دمشق بقواعد اللعبة المفروضة. لكن هذا الدعم يبقى مشروطًا وقابلًا للانقلاب في أي لحظة. فالولايات المتحدة لا تمنح «بوليصات تأمين» دائمة، وهي مستعدة لقلب الطاولة إذا شعرت أن السلطة الجديدة تحاول المناورة أو اللعب على التناقضات الدولية، كما فعل النظام السابق.

الخلاصة أن سياسة واشنطن مع سوريا الجديدة هي مزيج بين الواقعية السياسية وإدارة المخاطر، تكتب العلاقة بين الطرفين فصلًا جديدًا، لا يخلو من الفرص، لكنه محفوف دائمًا بإمكانية الانكفاء أو التصعيد.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.