لم تعد تركيا، ولا كرد كردستان الشمالية، قادرين على تحمل مزيد من الدوران في الحلقة المفرغة ذاتها: دائرة الدم، وتصدير الثورة، وفرض الوصاية، ومصادرة الإرادة، وهي ممارسات آذت أجزاء كردستانية أخرى. لقد آن أوان ولادة حزب كردستاني جديد في باكور كردستان (كردستان تركيا)، حزبٍ ينبع من روح العصر، ويتنفس الحرية، ويؤمن بالعمل السياسي كخيار حضاري، بعيدًا عن العنف والتخوين، وبعيدًا عن التطفل على شؤون الأجزاء الأخرى من كردستان، من دون أن يساوم في مواجهة العقل الاستبدادي الذي حكم تركيا منذ تأسيسها وحتى الآن، ونشر ثقافة عنصرية فاشية، تُعدّ السبب الرئيس فيما آلت إليه أحوالها. وقد بادر بعض قادتها، بعد استشعارهم خطأهم التاريخي، إلى محاولة تغيير ذواتهم، على أمل أن يكون التغيير حقيقيًا هذه المرة، لأن ولادة أو استمرار آلة العنف من قبل سلطات تركيا كانت السبب في خلق نواة حركة التحرر ضدها، وهي النواة التي لا بد أن تتجدد، إذا ما كان هدف أولي أمر تركيا خداع الكرد، عبر وصفة مؤقتة.
نقد ورفض:
الكردستانيون ليسوا بحاجة إلى أوصياء
لقد أثبتت التجربة أن الحزب الذي لا يؤمن بتنوع الرؤى داخل البيت الكردي، سرعان ما يتحول إلى سلطة مستبدة، تمنع التعدد، وتقمع الأصوات الأخرى، بل وتذهب إلى ما هو أبعد من ذلك: تشويه صورة قادة الأجزاء الأخرى من كردستان، ومحاولة مصادرة منجزاتهم، وحتى اغتيال شخصياتهم المعنوية والسياسية.
لم يكن هذا مجرد اجتهاد خاطئ، بل سياسة مقصودة اتُّبعت لعقود، وكانت لها أثمان باهظة على مجمل القضية الكردية، وعلى صورة النضال الكردي أمام العالم، والأخطر: على وعي الإنسان الكردي في الداخل، الذي وجد نفسه مخيرًا بين السلاح أو الصمت.
من داخل البيت الكردستاني في باكور:
آن أوان الفعل لا التهميش
أي حزب جديد يجب أن ينطلق من أبناء باكور أنفسهم، ومن نضالاتهم وتجاربهم وطموحاتهم. لا ينبغي أن يكونوا مجرد أدوات لتنفيذ أجندات تُفرض عليهم عبر جغرافيتهم، كما أنهم لن يتقبلوا من يتم فرضهم عليهم من خارج جغرافيتهم، ولا أن يكون كلا الطرفين ضحايا تهميش في القرار السياسي، كما حصل خلال العقود الماضية، حين تم إفراغ الساحة من الكفاءات، والتعامل مع الجميع بعقلية التابع، لا الشريك، كما ظهر هذا جليًا في كردستان سوريا، إذ تم فرض من سُمّوا بـ"الكادروات"، ليمارس بعضهم استبدادًا ودكتاتورية على رقاب الناس، وكأنهم قوة احتلال تمارس تسلطها داخل معسكر مغلق!
إنَّ فتح المجال أمام الطاقات الكردية الحيّة في تركيا، هو المدخل الأول لاستعادة الثقة بالنضال السلمي المدني، القادر على التأثير في الحياة العامة، والمشاركة السياسية الحقيقية، دون أن يُنظر إليهم كمجرمين أو إرهابيين أو غرباء عن الدولة والمجتمع، كي ينال الكرد كل ما يحق لهم قانونيًا ودستوريًا، بل ما تنص عليه مواثيق حقوق الإنسان والشرعة الدولية، إذا ما تم التنكر لوجودهم.
ومن المهم أن يكون الحزب الجديد بعيدًا عن مشروع تصدير الثورة أو فرض الوصاية، كما فعل حزب العمال الكردستاني، الذي خوّل نفسه بنفسه لقيادة كل جزء كردستاني عبر آلة العنف، بل يجب أن يكون جزءًا من خارطة كردستان الكبرى، يتكامل مع باقي الأجزاء، ويحترم خصوصيات كل منطقة، في ظل التفاهم الوطني ضمن سقف مشترك، دون تدخل أو فرض توجهات. فلكل جزءٍ سياقه الجغرافي والتاريخي والسياسي، ولا يحق لأي جهة أن تحتكر تمثيل الكرد أو تدّعي أنها الناطق الوحيد باسمهم.
من أجل نضال سلميّ شامل
إذاً، كردستان الشمالية، وبعد فشل مشروع "ب ك ك"، كما ارتآه قادته أنفسهم بعد أربعة عقود من المقاومة، أحوج ما تكون إلى حزب لا يتغذى على الصدام، بل يفتح أبواب الحوار مع جميع الكرد داخليًا وخارجيًا، في إطار التعاون الحقيقي، لا يقمع المختلفين، بل يحتضنهم، ولا يلغيهم، كي تتابع أحزاب أخرى طريقها بعدما تم اقتلاعها عن طريق التصفيات والتخوينات، وفق عقل استبدادي متحكم. حزب لا يخوّن من لا يرفع شعاره، بل يرى في التعدد مصدر قوة. حزب يعيد الاعتبار إلى السياسة بوصفها حلاً، لا ذريعة للهيمنة أو التصفية أو الطاعة العمياء.
أجل، لقد حان وقت التحوّل الجذري في المشهد السياسي الكردي في تركيا. حزب جديد لا يشبه ما سبقه، لا يكرر التجارب الكارثية، ولا ينفصل عن روح العصر. حزب يعيد للكرد كلمتهم، ويمنحهم فضاءً حرًا للنضال والتعبير والتغيير، من دون أن ننسى عظمة روح وإرادة وإيمان وفطرة المقاتل الكردي، الذي انخرط في النضال من أجل قضيته، لا لكي يُستخدم في مواجهة شقيقه الكردي، أو في تحصين آلة الدكتاتورية الحزبية التي لم تعد تنتمي إلى العصر.
فمن دون أداة سياسية حقيقية، مستقلة، مدنية، ديمقراطية، سيبقى الحلم الكردي معطلاً، تائهًا بين بنادق لا تصنع مشروعًا، وسجون لا تبني وطنًا، لاسيما في بلد مثل تركيا، له إرث إجرامي دموي مديد، يمتد قرنًا من الزمن، في مواجهة الكرد والمكونات الأخرى، رغم كونهم أصحاب الجغرافيا والمكان. وإن كانت تجربة "ب ك ك" قد انبثقت ردًا على هذا الظلم التاريخي المشين بحق الكرد، إلا أنها آذتهم أيضًا، وهو موضوع يمكن تناوله مطولًا في وقفات أخرى، غير هذه.