: آخر تحديث

خرافة السلام القائم على العدل

11
9
6

منذ عقود، والشرق الأوسط يعيش على وعدٍ قديم يُتلى في المؤتمرات الدولية، ويُكرّر في خطابات الزعماء وبيانات الأمم المتحدة: "السلام العادل والشامل". لكن دعونا نكون واقعيين (أو ساخرين قليلاً): ما هو هذا "السلام العادل" الذي يتحدثون عنه؟ وهل هو بالفعل مشروع سياسي، أم مجرد أسطورة من أساطير ما قبل الحداثة، مثل العنقاء أو دولة فلسطينية مستقلة؟

خرافة السلام العادل بدأت منذ لحظة قرر فيها طرف مسلح حتى أسنانه، بدعم غير محدود من أقوى قوى الأرض، أن يجلس "ليتفاوض" مع طرف محاصر، منزوع السلاح، مجزأ جغرافياً، ومنهك اقتصادياً. تخيل أن تدخل مباراة ملاكمة، وأنت مقيّد اليدين، ثم يُقال لك إنها مباراة متكافئة... "النتيجة تعادل… والآن إلى السلام العادل!".

العدالة؟ كلمة عظيمة، لكنها تُستخدم هنا كنوع من التوابل الخطابية. فالعدالة في هذا السياق لا تعني إعادة الحقوق، بل "إعادة صياغة المأساة بطريقة لا تزعج المُحتل". يُطلب من الفلسطيني أن يعترف بإسرائيل كـ"دولة يهودية ديمقراطية"، بينما لا يُطلب من إسرائيل أن تعترف حتى بوجود فلسطين على الخريطة، لا حرفياً ولا مجازياً.

ثم هناك مهرجان المصطلحات: "حل الدولتين"، "الدولة القابلة للحياة"، "حق العودة القابل للتفاوض"، "القدس الشرقية عاصمة فلسطين"، إلخ. كلها عبارات تصلح لتكون أسماء أفلام خيال علمي لا يُسمح بعرضها في الواقع.

والأطرف من كل ذلك، أن الوسطاء المفترضين للسلام هم أنفسهم الرعاة الرسميون لعدم الاستقرار: يبيعون السلاح لطرف، ويُصدرون بيانات قلق للطرف الآخر. وكأنك تدعو الذئب ليكون وسيطاً بينك وبين الخروف، ثم تستغرب لماذا فشلت محاولات السلام.

في نهاية المطاف، السلام العادل هو ذاك الكائن العجيب الذي يُذكر في المؤتمرات، وتُقام له القمم، وتُكتب فيه التقارير، لكن لا أحد يراه. ربما لأنَّه لا يعيش إلا في الخيال الدبلوماسي… أو في كتب التاريخ التي لن تُكتب.

وعبارة أخرى دائما تقترن بخرافة "السلام القائم على العدل" هي خرافة "الشرعية الدولية" هذه الشرعية لا تطبق إلا على الضعفاء، بنيامين نيتنياهو (بيبي) مطلوب القبض عليه لمحاكمته أمام المحكمة الدولية لإرتكابه جرائم حرب، ولكن لا يستطيع أي أحد لمسه أو الإقتراب منه لأن وراءه أكبر قوة على وجه الأرض، وحسب المثل المصري "إللي له ظهر ما ينضربش على بطنه".

لذلك فإنَّ أيّ شخص يكلمني عن أي "شرعية دولية" أقول له: "خالتك إسمها شرعية" و"ده ولية إللي يمشي وراك".

ومن كثرة تكرار عبارتي "السلام القائم على العدل" و"الشرعية الدولية" صدقها الطرف الفلسطيني الأضعف في المعادلة وفعلا بدأ التفاوض للحصول على أي شئ من مبدأ "ما لا يؤخذ كله لا يترك كله" وبعد التوصل إلى حل معقول مع إتفاقية أوسلو، قتل المتطرفون اليهود رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحق رابين وقتل المتطرفون المسلمون السلام، وكلا الطرفين أصبح يؤمن بأنَّ القضاء على الطرف الآخر هو الحل، وبأنها إما دولة يهودية من النهر إلى البحر أو دولة إسلامية من النهر إلى البحر، وطبعا كلنا يعلم من هو الطرف الأقوى لتحقيق هدفه من النهر إلى البحر.

إقرأ أيضاً: هل يستطيع العالم الاستغناء عن أميركا؟

وقد نبهني صديق عزيز إلى خرافة أخرى كان يتبناها حزب الوفد المصري، وموجودة حتى الآن في صدر صحيفته اليومية "الحق فوق القوة والأمة فوق الحكومة"، ويقال إنَّ هذا من أقوال سعد زغلول، وهناك احتمال أن يكون متأثراً بقول المهاتما غاندي "ليست القوة هي الحق، بل الحق هو القوة"، وكل هذه الأقوال أقوال جميلة وتصلح عند كتابة الشعر، ولكن عند مراجعة التاريخ والجغرافيا نجد دائماً بأن القوة كانت وراء قيام الأمبراطوريات العظيمة وبسبب قوتها استطاعت الغزو والإستيلاء على خيرات ليست ملكها، ومثلما قال الخليفة العباسي قولته الشهيرة عندما رأى سحابة كثيفة لم تمطر فوق قصره في بغداد فقال: "أمطري حيث شئت فإنَّ خراجك لي"، وهنا بيت القصيد أنَّ الأمبراطورية العباسية امتدت من بغداد واستولت على خيرات غيرها من الشعوب، ولا يهم إلا القوة التي تستطيع جمع "الخراج" (الضرائب بلغة العصر). ونفس الشيء ينطبق على الأمبراطورية الرومانية، وأذكر في فيلم "كليوباترا" والذي قامت ببطولته الممثلة الرائعة إليزابيث تايلور، وكانت كليوباترا تخاطب الإمبراطور الروماني (القيصر) عندما هبطت سفنه في الإسكندرية وقالت له: "أنت هنا لأنك تريد الاستيلاء على القمح المصري لتغذية قواتك".

سوف يتحقق العدل على الأرض عندما يعود المسيح أو المهدي المنتظر أو المسيا المخلص (كل حسب عقيدته) لكي: "يملأ الأرض عدلاً بعد أن ملئت ظلماً وجوراً".


(ملحوظة هامة: الرسوم الكاريكاتورية المرفقة بالمقال هي من إنتاج برنامج الذكاء الاصطناعي، كما حال بالنسبة إلى جزء من المقال، وقد حمدت ربنا أنني لا أكسب رزقي من الكتابة)!


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.