لم تكن الليالي الأخيرة في البلدة القديمة من جنين مجرد امتداد لسلسلة الأحداث المؤلمة التي اعتاد عليها سكان الأراضي الفلسطينية المحتلة، بل كانت فصلًا جديدًا، أكثر قتامة وإيلامًا، يُضاف إلى سجل طويل من المعاناة والترقب. فمع تكثيف قوات الاحتلال الإسرائيلي لوجودها العسكري في المنطقة، واقتحامها للمنازل واعتقالها للشباب، وجد أهالي جنين أنفسهم في خضم واقع مرير، محاصرين بين فكي كماشة: بطش الاحتلال من جهة، وخطر الاشتباكات المسلحة التي تدور في محيطهم السكني من جهة أخرى.
في جنين، لا ينام الأطفال إلا على أصوات الدبابات، ولا يستيقظون إلا على دوي الانفجارات. هذه ليست مبالغة أدبية، بل واقع يومي يعيشونه، حيث تحولت الشوارع إلى ساحات حرب مفتوحة، والمنازل إلى ثكنات عسكرية مؤقتة لقوات الاحتلال. السكان هنا لا يخشون الموت فحسب، بل يخشون الحياة أيضًا؛ الحياة التي تتحول إلى جحيم يومي، حيث لا أمان في البيوت، ولا طمأنينة في النفوس، ولا يقين في الغد.
إنَّ القلق العميق الذي يعتري قلوب هؤلاء المدنيين ليس مجرد خوف عابر، فهو نابع من إدراكهم للعواقب الوخيمة التي قد تترتب على هذا التداخل الخطير بين الوجود العسكري والنشاط المسلح في محيطهم. فالعائلات الفلسطينية في البلدة القديمة، التي بالكاد تستطيع تدبير شؤونها اليومية في ظل الظروف الاقتصادية الخانقة والحصار المستمر، تجد نفسها اليوم أمام تهديد مباشر لسلامة أبنائها وممتلكاتها الضئيلة. يتحول منزلهم، الذي يفترض أن يكون ملاذًا آمنًا، إلى نقطة تماس محتملة، ومسرحًا لصراع لا ناقة لهم فيه ولا جمل.
إقرأ أيضاً: السلطة الفلسطينية وتحديات الضفة الغربية
ولم تكتفِ قوات الاحتلال بتكثيف وجودها، بل عمدت أيضًا إلى تحويل منازل بعض المواطنين في حارة جبل النصر في المخيم إلى ثكنات عسكرية مؤقتة، ممارسة بذلك أبشع صور انتهاك حرمة البيوت. بل وصل الأمر إلى حد تدنيس المقدسات، كما حدث عند تمزيق نسخ من القرآن الكريم وإلقائها على الأرض، وهو عمل شنيع ينم عن استهانة بالغة بمشاعر السكان ومعتقداتهم الدينية. وفي سياق متصل، تواصل إسرائيل سياسة عزل المدن والقرى الفلسطينية، كما حدث عند إغلاق بوابة حاجز جبارة جنوب طولكرم، مما فاقم من معاناة الأهالي وعزلهم عن محيطهم.
في هذا المناخ المشحون بالخوف والترقب، يدفع المدنيون الفلسطينيون في جنين والضفة الغربية ثمنًا باهظًا لصراع لا يملكون فيه قرارًا. فهم يسقطون شهداء برصاص الاحتلال أثناء اقتحام المنازل أو استهدافها بشكل مباشر، ويُحرمون من أبسط حقوقهم الإنسانية، كالحق في التنقل الآمن لشراء احتياجاتهم الأساسية أو الحصول على الرعاية الطبية اللازمة. حتى الطواقم الطبية تُمنع في كثير من الأحيان من الوصول إلى المصابين، في انتهاك صارخ للقانون الدولي الإنساني.
إنَّ ما يحدث في جنين ومخيمها ليس مجرد عملية عسكرية عابرة، إنه عدوان مستمر على الإنسان والأرض، يخلف دمارًا واسعًا في البيوت والممتلكات والبنية التحتية. وتحويل منازل المدنيين إلى ثكنات عسكرية يمثل قمة الاستهتار بحياة هؤلاء السكان وكرامتهم. ومع استمرار تدفق التعزيزات العسكرية إلى عمق البلدة القديمة، تتصاعد المخاوف من اتساع نطاق العمليات وتزايد الخسائر في صفوف المدنيين.
الأوضاع في مخيمات طولكرم ونور شمس ليست أفضل حالًا، حيث تشهد حشودًا كبيرة لقوات المشاة التي تقتحم المنازل وتعيث فيها فسادًا، وسط حصار مطبق يزيد من وطأة الأنين والجراح. ونتيجة لهذه الظروف القاسية، يضطر الآلاف من السكان إلى النزوح قسرًا، هربًا من جنون الاحتلال وحصاره الخانق. وتجاوز الهدف مجرد ملاحقة مسلحين، ليصبح تكسير إرادة السكان وتهجيرهم القسري، تمهيدًا لضم المزيد من الأراضي وتحويلها إلى مستوطنات جديدة.
إقرأ أيضاً: حماس تدفع غزة نحو جولة صراع جديدة
وفي ظل هذا التصعيد الإسرائيلي المستمر، الذي يجري على مرأى ومسمع العالم، ولا سيما المنظمات الحقوقية التي تنادي بحقوق الإنسان، تتواصل أيضًا الحرب الاقتصادية الخانقة التي يشنها الاحتلال على المدنيين الفلسطينيين. بدأت هذه الحرب بالحصار والتضييق، ومنعهم من مغادرة منازلهم بسبب القصف المتواصل، مرورًا بتخريب اقتصاد الضفة الغربية وتدمير الأسواق، وصولًا إلى منع دخول البضائع وإغلاق المعابر. وأصبح الأمر وكأن إسرائيل تحاول تحويل الضفة الغربية إلى مقبرة جماعية، تنتظر لحظة "الموت الجماعي" لسكانها.
وأدت هذه القيود إلى تدهور حاد في الاقتصاد الفلسطيني، وتحويله إلى اقتصاد هش يعاني من ارتفاع معدلات الفقر وفقدان مصادر الرزق وغياب أبسط مقومات الحياة والرعاية الصحية. في ظل هذا الحصار الشامل، يصبح السؤال ملحًا: كيف يستطيع هؤلاء الأهالي توفير الطعام لأطفالهم، أو الدواء لجراحهم، أو حتى وسائل البقاء على قيد الحياة؟ وإلى متى ستظل يد الاحتلال جاثمة على رقاب المدنيين الفلسطينيين، تخنقهم حصارًا وتضييقًا يوميًا؟ وإلى متى سيستمر هذا الحصار المشلول للحياة العامة في الضفة الغربية؟
إقرأ أيضاً: الدور العربي في غزة
إنَّ ما يحدث في جنين والضفة الغربية ليس مجرد "ليالٍ متوترة"، بل هو صراع يومي من أجل البقاء في وجه قوة احتلال غاشمة وفوضى تهدد بتقويض أسس الحياة الإنسانية. إنَّ المجتمع الدولي مطالب اليوم بتحمل مسؤولياته والتحرك بشكل حاسم لإنهاء هذه المعاناة المستمرة، وضمان محاسبة المسؤولين عن هذه الانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان والقانون الدولي. أما الصمت والتخاذل، فلن يؤديا إلا إلى مزيد من التصعيد والعنف، وإغراق المنطقة في دوامة لا نهاية لها من الألم واليأس.