: آخر تحديث
هاشتاك الناس

رفقًا بأنبياء الحرف

10
8
6

"قُم لِلمعلمِ وَفِّهِ التبجيلا*** كاد المعلمُ أن يَكونَ رسولا"

لم يأتِ المعنى العميق والشامل لهذا البيت الشعري الشهير من فراغ، فهو مطلع قصيدةٍ عظيمة لأمير الشعراء أحمد شوقي الذي تُوُفي عام (1932). وقد ظل هذا البيت راسخًا يحمل معانيَ قيِّمة، تحثُّ على العلم والتعليم، وتُبرز أهمية واحترام مكانة المعلم في المجتمع.

ذات مرة سُئل مُؤسس دولة سنغافورة عن سر تقدم دولته، فأجاب بصراحة: "المعلم... المعلم، والتعليم". وكذلك قال فيصل الأول قولتَه الشهيرة: "لو لم أكن مَلِكًا لكنتُ معلمًا"! ولكن، ما أكثر الحديث اليوم عن مأساة المعلم في بلادنا التي تُعاني من مرض كُرْهِ العلم والعلماء والمعلمين!

في ضجيج الحياة المتهاوية، والعيش التعيس، وانحدار القيم، نادرًا ما نسمع عمَّن يعترف بفضل المعلم؛ بل يحدث العكس تمامًا، فلا الحكومة تعترف بإسهاماته وحكمته؛ لانشغالها بصراعات السلطة والمال، ولا المجتمع يحميه من المشكلات التي تفرزها الأنظمة الاجتماعية الحديثة. الجميع يُظهر جحودًا بحقوقه ودوْره، وكأن التعليم أصبح هاجسًا لموت الحقيقة! ونبراسًا للجهل، وسُبَّة مجتمعية، ودراما للاستهزاء في وسائل الإعلام!

لقد فقدت مؤسساتنا السياسية والأمنية والاجتماعية اهتمامها بدروس العلم ونظريات أينشتاين، وكيفية انجذاب الكتل والأجسام تجاه بعضها؛ لأن الانجذاب العلمي أصبح شيئًا من الماضي، وصرنا اليوم أكثر انجذابًا لطقوس الغيبيّات وأخبار الفن الهابط، والطهي، والتنجيم، والسحر، ومؤشرات الموضة؛ مثل: قصات الشعر، والبوتوكس، والشفط والنفخ!!

لم يعد المعلم في أوطاننا ذلك النور الذي يُضيء عتمة أركان الزمن، كما هو الحال في البلدان الراقية المتقدمة التي تعتز بالإنسانية وصناعة الابتكار؛ بل أصبح هذا المعلم مهدور الكرامة! جائعًا يسعى للعيش في دهاليز المجتمع، ولقد وصلت به المأساة إلى درجة أنه فقَدَ حقوقَه الإنسانية وجُرفت كرامتُه!

في زمنٍ مضى، كان معلم اللغة العربية يتحدث عن الفاعل والمفعول به والمفعول لأجله، بطريقة مجرَّدة؛ حتى إننا لم نكن نعرف مَن هو الفاعل ومَن هو المفعول به! ولم يكن يخطر بباله أن يأتيَ زمنٌ يُصبح فيه المفعول به هو المعلم، والفاعل هو الجاهل الذي تنكَّر له ولاعترافه بفضلِه وعلمِه! زمن يُصبح فيه الجهل مقدسًا، والنور ظلامًا، والغزال قردًا!

إن ما حدث في الأسابيع الماضية من عُنف قوات الأمن ضد الكوادر التعليمية -وخاصة في ذي قار-؛ لهُوَ وصمةُ عارٍ كبيرةٍ على السلطة، التي تمارس عنفًا مُفرطًا واعتقالاتٍ عشوائيةً بحق مَن علَّمهم فن قراءةَ الحياة، وأوصلهم إلى ما هم عليه الآن.

إنه عارٌ ما بعده عار، أن تُنتهكَ حقوق المعلم وأن يُضربَ بالعُصِيِّ والهُرَّاوات، ويختنقَ بالغازات السامة التي تتعارض مع مبادئ الدستور العراقي، لاسيما المادة (38) التي "تكفل حرية التعبير والتظاهر السلمي". وهذا المعلم لا يطلب إلا تحسين ظروفه المعيشية الصعبة في ظل غياب العدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للثروة والفساد المتغلغل في أوصال المجتمع.

ما أكثر الكلام اليوم عن مأساة المعلم العراقي، وإن كان ما يُقال عن راتبه ليس سوى باطلٍ يسعى لتغطية مجموعة من الحقائق، وليس حقيقة واحدة. لقد بلغ به الألم والظلم إلى حدٍّ سُلبت فيه حقوقه الإنسانية وجُرفت كرامته بالقهر والاستبداد.

نادرًا ما نسمع اليوم في ضجيج الحياة المتسارعة، وتعاسة العيش، وانحدار القيم، مَن يعترف بأفضال المعلم التربوية، وما هي -إن وُجدت-إلا كلمات معسولة تعتمد على الكذب والخداع، وردود فعل باجتماعات وبيانات حكومية مضللة للتهدئة. وما يحدث هو العكس تمامًا؛ إذ أصبحت إهانة المعلم ثقافةً سائدةً، ومنهجًا تربويًا في العقوق. ما نشهده من عنفٍ وإذلالٍ للمعلمين يُعد رسالةً سلبيةً موجهةً لمَن قاد البلاد إلى حضيض الجهل والخرافة.

المُفترض يا سادة، أن نجعل المعلم قدوة للمجتمع، نسترشد به ونستفيد من علمه؛ لا أن يتحول التعليم إلى درسٍ عن ذل المهانة واحترام المهنة والعلم! وأن نجعل صوّر العنف ضدهم صورة ذهنية سلبية تتعمق في مدراك الأجيال الجديدة، لتنتهي صورة (القدوة) الجميلة في تكوين الوعي والشخصية، وذاك فعل الأغبياء أيها المسؤول!!

إنَّ مهنة التعليم تستهين بثقافة كاملة إذا استمرت على هذا النهج من الإهمال وعدم الإنصاف، والأخطر أن نستمر في إهانة أصحاب الرسالة، رمز المعرفة، مما نشهده من مشاهد عنف ضدهم. لذلك، علينا أن نتوقع العواقبَ الوخيمةَ التي بدأت تظهر في واقعنا. ويجب أن نتذكر التحذيرَ القديمَ الذي يقول: "إياك أن تضع قدمك حتى على ظِلِّ المعلم!"

حقًّا، ما أصعب الوطن الذي يجعل مهنة المعلم مرتبطةً بالفقر والحرمان! ويتعامل معها كموضوعٍ للسخرية، ويغض الطرفَ عن مطالب المعلمين في تحسين ظروف حياتهم ورفاهيتهم؛ بل ويُصر على عقوق مَن علمهُم أبجديةَ الحروف!

ما زلتُ أتذكَّر تلك القراءةَ الخُلدونية منذ أن كنت في الصف الأول الابتدائي في العراق، عندما كنا نقرأ في (زمن المعلم) فقرة رائعة حفظناها عن ظهر قلب: "دار... دور... في دارنا ضيف عزيز". وللأسف، لم نعد نقول اليوم في دارنا العزيز؛ بل صارت في دارنا قنابل غاز مسيل للدموع، وجيوش لمكافحة حقوق أنبياء الحرف!


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.