لم يكن انقلاب النيجر حدثاً يمكن اعتباره داخلياً بشكل كامل فالتدخلات الدولية المتسارعة في هذا البلد الإفريقي المهم لمصادر إنتاج الطاقة النظيفة تدل على ذلك, فمازالت حالة من الارتباك والغموض تحيط بمدى استقرار النيجر وقدرة سيطرة الحركة للانقلابية على البلاد, فالعالم جله مازال يعترف بالرئيس الشرعي محمد بازوم كما أن تحالف المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا الذي يسمى اختصاراً «ايكواس» وعددهم خمس عشرة دولة ويضم النيجر وتأسس عام 1975م يستعد لعمل نوعي لإنهاء الانقلاب وعودة الرئيس الشرعي للحكم من جديد, ويدعم توجههم فرنسا التي تواجه أصعب مراحل وجودها في إفريقيا بعد أن رسخت لنفسها مكاناً دام لعقود بعد حقبة استعمارها لدول عديدة في القارة الذهبية الغنية بثرواتها, لكن لماذا أخذ الانقلاب في النيجر كل هذا الزخم من الاهتمام الدولي تحديداً من القوى المتصارعة على توسع نفوذها عالمياً؟
بالعودة للماضي القريب فإن تسارع القوى الكبرى لنيل أكبر ما تستطيع من النفوذ عالمياً بدأ منذ تفكك الاتحاد السوفيتي عام 1991 معلناً بذلك انتصار الغرب بقيادة أميركا والذي قص شريط الانتقال للنظام العالمي الجديد, فأوروبا رأت بأنها يمكن أن توسع نفوذها ولذلك أرادت توحيد صفوفها أكثر من خلال إطلاق عملة موحدة تربط مصير دول الاتحاد الأوروبي مع بعضها بشكل أوثق لكي تكون منفصلة بمصالحها عن أميركا التي أصبحت تنظر إلى أن الخطر الذي يهدد بقاءها أكبر دولة اقتصادياً يأتي من الصين والأخيرة ترى أن مكانتها الحقيقية أن تكون في مقدمة دول العالم بكل المجالات وبرزت طموحات دول عديدة على رأسها روسيا بعد أن استفاقت من صدمة تفكك الإمبراطورية السوفيتية كونها الوريث الشرعي لها وتريد أيضاً استعادة أمجادها ونفوذها عالمياً، وبالعودة لإفريقيا والانقلابات التي وقعت ببعض دولها في العامين الماضيين فإن مسارعة الدول الكبرى للتعبير عن مواقفها منها يشير لمصلحة كل طرف أن يكون له دور مهم في العلاقة مع دول إفريقيا التي تعد رئة الاقتصاد العالمي القادمة حيث يتوقع أن يرتفع ناتج دولها مجتمعة من 2،5 تريليون دولار حالياً إلى 10 تريليونات عام 2040 فهي سوق واسع بكافة دولها الـ 54 وتنتشر فيها الشركات الصينية والأوروبية وغيرها بكثافة وتتركز أعينهم على الموارد الطبيعية والاستثمار الطويل الأمد بها بالإضافة لتمويل وإنشاء المشاريع الاستراتيجية بتلك الدول والتي نجحت الصين فيها بشكل كبير حيث عززت شراكتها بإفريقيا وتعد سوقاً مهماً تريد التوسع بالتصدير لها حتى تقلل من اعتمادها على السوقين الأوروبي والأمريكي اللذين يشكلان جل صادراتها.
لكن لماذا أثار هذا الانقلاب دولة كفرنسا وأوروبا عموماً؟ فالجواب على هذا السؤال يتركز في حرب الطاقة بين روسيا وأوروبا وأميركا فبعد الحرب في أوكرانيا فقدت أوروبا مصدر طاقة رخيصاً يتمثل بالغاز الروسي تحديداً وأصبحت تكلفة استيراده عالية جداً والمصدر البديل لروسيا كان بالدرجة الاولى أميركا التي باعتهم الغاز بأربعة أضعاف سعر بيعه بالسوق الأمريكي ولكن مع ذلك بقي موقف الأوروبيين داعماً لأوكرانيا رغم الضغوط الاقتصادية ولم تفلح محاولات روسيا ببيعهم النفط بالروبل لدعمه لأن مشترياتهم توقفت منه تقريباً مما أعاد العملة الروسية للتراجع ليصل كل دولار لما يعادل 100 روبل بالإضافة للضغوط التضخمية التي ادت لأن يرفع البنك المركزي الروسي الفائدة إلى 12بالمائة في ظل اقتصاد يواجه ضغط العقوبات الغربية عليه ولذلك فإن روسياعلى الأقل لم تكن مستاءة من انقلاب النيجر بل دعت لحل سياسي والذي يعني بالضرورة أن يكون للانقلابيين كلمة بحكم البلد ونهجهم المعلن هو ضد فرنسا التي تولد طاقتها الكهربائية بالاعتماد على الطاقة النووية بنسبة 70 بالمائة وتعد النيجر أكبر مصدر لليورانيوم لفرنسا لتشغل مفاعلاتها حيث تصدر لها 35 بالمائة من احتياحاتها بينما تمثل صادرات النيجر من اليورانيوم لأوروبا 25 بالمائة من احتياحاتهم فهي سابع أكبر منتج له بالعالم بنسبة 5 بالمائة ولذلك فإن حصار الطاقة يهدد أوروبا من جديد التي أدركت متأخرة أن مزيج الطاقة لديها فيه خلل كبير وباتت تعود بسرعة للوقود الأحفوري من جديد فإعلام أوروبا يرى أن روسيا مسؤولة عن انقلاب النيجر وكأنها ردت في مكان آخر على عقوبات أوروبا عليها أي تعاقبهم بشكل غير مباشر رغم أنه لا يوجد أي دليل عن دعمها أو تورطها بالانقلاب لكن ظهور المخاطر على إمدادات تدعم إنتاج الطاقة لديهم هو ما حرك دبلوماسيتهم وأقلام كتابهم ضد روسيا متناسين أن سياساتهم في الطاقة تعاني من خلل فجاءت حرب أوكرانيا كالمحاسب العظيم لتكشف الخلل ولكن على الجانب الآخر تتحرك أميركا بطريقة أربكت الأوروبيين حيث أثار وجود نائبة وزير الخارجية الأمريكية في النيجر غضب فرنسا حليفة واشنطن في الناتو فقد نشرت صحيفة لو فيجارو الفرنسية نقلاً عن مصدر بوزارة الخارجية الفرنسية أن الولايات المتحدة فعلت العكس تماماً مما اعتقدنا أنها ستفعله، مضيفاً أنه «مع حلفاء مثل هؤلاء، لا نحتاج إلى أعداء» وهي إشارة إلى أن واشنطن تعمل علىمسار سياسي لا يراعي مصالح حلفائها الأوروبيين والفرنسيين على وجه الخصوص فقد تكون مستفيدة من بقاء أوروبا معتمدة عليها بمصادر الطاقة وملفات سياسية وعسكرية وأمنية خصوصاً في مرحلة محاولتها منع الصين من التفرد بقيادة الاقتصاد العالمي وكذلك تحجيم طموحات موسكو.
الطاقة هي محور ملف النيجر لدى القوى الكبرى المتصارعة على تمدد نفوذها عالمياً وأصبحت بعض المناطق الجغرافية بالعالم ساحة تصفية حسابات ومراكز ضغط كل طرف يحاول أن يصطفها لجانبه في مرحلة إتمام بناء النظام العالمي الجديد وحجم كل قوة متنافسة فيه بينما تبقى الصين الأقل حديثاً عن شأن النيجر حيث نقلت رويترز عن وزارة الخارجية الصينية إنها تعتقد أن النيجر والدول في المنطقة تمتلك الحكمة والقدرة لإيجاد حل سياسي للوضع الراهن، لكن يبقى الترقب من سيكسب معركة الشراكة العميقة مع إفريقيا فهل تضعف أدوار أميركا وفرنسا ومن خلفهم أوروبا وتتفوق روسيا والصين اللتان تقدمان نفسيهما كشريك يدعم نمو تلك الدول وهما مقبولتان بحكم نوعية الشراكة التي يطرحانها فالعامل الاقتصادي هو ما سيحسم قرار حكومات وشعوب دول إفريقيا في بناء شراكاتها وتوجهاتها القادمة