من المهم تقديم قراءة دقيقة لأبعاد تفاصيل الاستحواذ الكامل لصندوق الاستثمارات العامة، على نادي "نيوكاسل يونايتد" الإنجليزي العريق، بعيدًا عن الصفقة المالية وتبعاتها الفنية والإدارية، وربما من الأهم تقديم إجابات وافية وشافية حول الأسئلة المركزية المطروحة اليوم على منصات التواصل الاجتماعي، خاصة "تويتر" الذي يمثل رئة السعوديين الإلكترونية، ونقاشات التلفزة على القنوات الإخبارية المتخصصة في الشأن الرياضي، وهي: ماذا ستستفيد السعودية من هذا الاستحواذ الرياضي المهم؟ وما الذي سيشكله ذلك على محورية تأثيرها الإقليمي والدولي، وصورتها الخارجية أمام المجتمعات العالمية؟
الانطلاق من الأسئلة السابقة، سيشكل بما لا يدع مجالًا للشك نقطة مفصلية في فهم إصرار السعودية عبر صندوق الاستثمارات العامة على هذا الاستحواذ، الذي لم يتم في المرحلة الأولى لظروف فنية ليس المقام واردًا لذكرها، إلا أن الأمر تم في المرحلة الثانية، وحتى نفهم هذه الحيثيات بالشكل المطلوب، على الرأي العام الوطني، أن يعي كيفية تفكير صناع القرار في مسألة إعادة تموضع القوة السعودية الناعمة في المحيط العالمي، لذلك نلحظ في السنوات الخمس الأخيرة، حدوث تغييرات كبيرة وعميقة على مشهد التأثير السعودي، من خلال إعادة تشكيل هذه الأدوات المؤثرة، حيث أضحت اليوم عاملًا محوريًا يفوق في أحيان كثيرة مفاهيم "العسكرة" و"التسييس" بمراحل كبيرة.
بالتأكيد أن استحواذ صندوق الاستثمارات العامة على "نيوكاسل يونايتد" سيمنح الرياض نفوذًا سياسيًا قويا في عاصمة الضباب اللندنية، بعد امتلاكها أحد أهم أدوات القوة الناعمة، وهو النادي العريق الذي تأسس في التاسع من ديسمبر 1892، وهو سابع أكثر الأندية الإنجليزية تحقيقاً للبطولات، ويعد ملعبه الخاص سانت جيمس بارك، أحد أكبر ملاعب إنجلترا، الذي يتسع لـ 52 ألف متفرج، ومن أشهر من لعب لصالحه آلان شيرر الذي يحمل الرقم القياسي لأكبر عدد أهداف سجلت في الدوري الإنجليزي الممتاز برصيد 260 هدفاً.
في فبراير2017 استعرض مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، تقريرًا مترجمًا عن دراسة مشتركة نشرتها المجلة البريطانية للسياسات الدولية، بعنوان "الأحداث الرياضية.. واستراتيجية القوة الناعمة بالنسبة للدول.. دراسة لحالتي بريطانيا (2012) وألمانيا (2006)"، أنجزها أساتذة السياسات الرياضية، "جوناثان جريكس"، وهو مدير مركز السياسة الرياضية في كلية الرياضة والتمرين وإعادة التأهيل بجامعة برمنجهام البريطانية، بالإضافة إلى زميله باري هوليهان، أستاذ السياسة الرياضية في كلية الرياضة والتمرينات والعلوم الصحية بجامعة لوبورو في بريطانيا، قدما خلالها نموذجين مختلفين لاستثمار الرياضة كقوة ناعمة؛ إنجلترا (الألعاب الصيفية الأولمبية 2012)، والحالة الألمانية (كأس العالم 2006)، التي استخدمت هذه الفعالية لصناعة الصورة والتغلب على بعض النمط الشائع عنها وارتباطها بالإرث التاريخي للنازية. تُسهم الرياضة اليوم في إبراز صورة وهوية الدولة على الساحة الدولية، وتعزيز الفخر بإنجازات أنديتها ومنتخبها الوطني؛ بل أصبحت أحد أدوات القوة الناعمة الفاعلة في المجال الرياضي، وهي بمثابة دفاعات صاروخية إنسانية عابرة للقارات.
وفي مقال سابق منشور كتبته في أوائل مايو من العام الماضي، تناولت فيه أبعاد المرحلة الأولى من مشاورات الاستحواذ، وقلت حينها بالنص ما يلي: "في حال كسبت السعودية صفقة النادي الإنجليزي العريق، فمن المتوقع ارتفاع شعبية المملكة لدى نصف سكان الكرة الأرضية، على اعتبار أن 3,2 مليارات متفرج قد شاهدوا عبر التلفاز المنافسة المثيرة بين (ليفربول) و(مانشستر سيتي) على لقب دوري 2019، ويكفي أن نعرف أن حقوق مشاهدة المباريات تبث في فضاء 188 دولة حول العالم، فما رأيك إذا اقتربنا من نصف هذا الرقم فقط من بين مشجعين يحملون صورًا لولي العهد الأمير محمد بن سلمان في ملعب (سانت جيمس بارك) الخاص بنيوكاسل".
تهدف السعودية من خلال التمدد في الاستثمارات واستضافة الأحداث الرياضية الكبرى، مثل "السوبر الإيطالي والإسباني، والفورملا إي، والفورملا 1، ورالي داكار والملاكمة، وغيرها، إلى تسويق أفكارها وطروحاتها ومشاريعها ومبادئها أمام المجتمعات العالمية، ناهيك عن استثمار صورتها خارجيًا في إطار الرياضة التي تعد الأكثر والأسرع انتشاراً.
تملك السعودية اليوم في جعبتها الكثير من المشاريع والرؤى التي تتجاوز حدودها الجغرافية، إلى مساحات عالمية واسعة، وهي المعادلة التي يمكن لنا من خلالها فهم تحركاتها على خط صناعة "الاستثمارات الرياضية"، وبطبيعة الحال لن يكون الاستحواذ على "نيوكاسل" سوى مفردة واحدة من جملة مفردات تؤكد على امتلاك أدوات القوة الناعمة، وسنشهد في الأيام المقبلة الكثير من التحركات التي تؤكد على ريادة هذه البلاد المباركة.. دمتم بخير.