عام يمر وآخر يأتي، ولا شيء يتغير في غزة، فالوضع الاقتصادي الصعب يزداد سوءا يوما بعد يوم، الأمر الذي يضع الوضع الإنساني والاجتماعي في القطاع، على شفا حفرة من الانهيار، سنوات طويلة من الحصار الخانق تحولت فيها غزة لسجن محكم الإغلاق، مشى خلالها الغزيون في ظلام حالك فلا كهرباء تنير طريقهم، ولا علاج يخفف أوزار مرضهم فلحد الساعة لا يزال مرضى السرطان في قطاع غزة يموتون وهم في قاعة الانتظار، بين أمل الحصول على تصريح من سلطات الاحتلال ليعبروا إلى الطرف الآخر من الوطن المحتل، والوصول إلى أقرب مشفى في القدس والضفة الغربية لأخذ جرعة كيماوي قاسية، والتي لا تختلف قساوتها عن قساوة ومرارة مريض آخر يصارع الموت دون أجهزة إنعاش، منع الاحتلال دخولها بغير وجه حق، ليزيد من معاناة قطاع الصحة في غزة، والذي لم يعد قادرا على خدمة 2.3 مليون نسمة بمستشفيات تخلو من أبسط المعدات الطبية، فقد طالت آثار الإغلاق والحصار الإسرائيليين مناحٍ مختلفة من نظام الرعاية الصحية حيث تبلغ نسبة الأدوية الأساسية والمستهلكات الطبية المتوفرة بكمية قليلة، إذ تزيد نسبة الأدوية النافدة عن 47 في المائة من مجموع الأدوية.
دعوات ووقفات واحتجاجات وتنديد من هنا وهناك، تحت شعار واحد "أغيثوا غزة"، فقد اصطف سيل من سيارات الإسعاف، على مقربة من السياج الحدودي الفاصل في المنطقة ما بين شرق شمالي القطاع وشرقي مدينة غزة تنديدا ورفضاً لاستمرار الاحتلال في سياسته التي تمنع إدخال مستلزمات بإمكانها أن تعيد الحياة لآلاف المرضى الذي حكم عليهم بالموت البطيء، والتي منعت لتضييق الخناق أكثر على الغزيين ومحاولة لإدخال القطاع في كارثة إنسانية وانهيار في المنظومة الصحية، لكن كل هذه الصرخات لم تجد آذاناً صاغية، فلا أحد يهتم ولا أحد يكترث، فحين يتعلق الموضع بغزة يصبح العالم صم بكم عمي.
الوضع في غزة ليس جديدا بل هو امتداد لنهج وسياسة فرضها الاحتلال كواقع يتعايش معه الغزيون بشكل يومي، لكن المفارق هنا أن العالم لا يبدي أي اهتمام بمعاناة سكان القطاع المتهالك بقدر 1% من اهتمامهم بأوكرانيا، فبعد 11 عشر شهر فقط من بداية العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا حصلت هذه الأخيرة على ميزانية ضخمة قدرت بـ 102.2 مليار دولار كمساعدات إنسانية فقط، في حين أن 80% من سكان قطاع غزّة يعتمدون على المساعدات الإنسانية، ويواجه 64% منهم انعدام الأمن الغذائي، ويعاني 59% منهم من الفقر، أرقام ضخمة تعكس التناقض النموذجي في التعامل مع القضايا الإنسانية العالمية، من ناحية أخرى وفي ظل هذه المفارقات من الصعب غض البصر عن الصورة العنصرية النمطية التي اعتاد المجتمع الغربي تشكيلها والإنسانية المشروطة بعرق معين وشعر أصفر؛ لأن صرخات الشجب هذه لا تؤدي إلا لمزيد من الصمت الذي استمر لفترة طويلة عندما يتعلق الأمر بصراعات في أجزاء العالم الأخرى أو بالأحرى دول العالم الثالث كما يحلو لهم تسميتها.
دون المرور في متاهات قد تجعلنا ندور في حلقة مفرغة، لا بد من التركيز في خطورة الأزمة الإنسانية التي تضرب العالم أجمع، إلا أن الفرصة أتيحت لإعادة النظر في معايير الإنسانية المشتركة، عوضا عن بناء التعاطف على الخصائص العرقية أو اللغوية أو الدينية أو العرقية أو الجغرافية، لا تمد للأخلاق بصلة، فالغرب المتباهي بتطوره التقني نسي أن يطور نفسه إنسانيا، فغزة لا تختلف عن أوكرانيا، ويحق لها ما حق لغيرها، ومسؤولية النهوض بها تقع على عاتق الجميع.