أمريكا لن تتدخل في تشكيل الحكومة، ولا في فض النزاعات بين الأطراف السياسية المتنازعة، وكل ما يهمها من أمور العراق "استقرارُه واستقلال الطاقة".
هذا الكلام الصريح جاء على لسان نائبة مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون إيران والعراق، جينيفر جافيتو. ثم اعترفت بأن ما بين العراق وإيران مصالح مشتركة لا تعارضها أمريكا.
وفي إيجاز هاتفي نشره موقع وزارة الخارجية الأمريكية دعت جنيفر جافينو العراقيين إلى التقيد بنظام المحاصصة، قائلة، "يحتاج القادة العراقيون، من مختلف أطيافهم، إلى التأكد من تضمين جميع الأصوات، كجزءٍ من أي تسوية سياسية". وأما ماعدا ذلك فـ (نارُكم تأكل حطبكم) أيها العراقيون.
إذن، فأمريكا ما زالت حريصة على بقاء العراق، كما تركته قبل عشرين عاما، تحت تصرف النظام الإيراني، ولا تريد أن تفعل شيئا لاستعادته منه، على الأقل في المدى المنظور.
وعلى هذا تكون بشائر المحللين العراقيين والعرب الذين تنبأوا بقرب تدخل الولايات الأمريكية لفرض الأمن والنظام وضبط سلاح المليشيات وتقليم أظافر النفوذ الإيراني في العراق، ضربا من الخيال.
علما بأن الوضع الذي يغرق فيه العراق اليوم ليس وليد الغزو الأمريكي الذي جعل الحاكم الأمريكي المدني، بول بريمر، يكافيء النظام الإيراني على تعاونه الفاعل الذي لم يكن للغزو أن ينجح بدونه.
بل إنه بدأ من زمن طويل قبل ذلك الغزو بكثير. والثابت والموثق أن العداوة الأمريكية للعراق، حكومة وشعبا، بدأت قبل غزو العراق للكويت بعام، وتحديدا بعد نهاية الحرب الإيرانية العراقية بشهور، حين بدأت الصحف الكبرى المتصلة بالإدارة الأمريكية، في أواخر 1989 حملة مركزة تتحدث عن تجاوزات حكومية عراقية منظمة في ملف حقوق الإنسان، وحملات إبادة عرقية ضد الكرد، كالأنفال وحلبجة وغيرها. ثم تحولت الحملات العدائية، بسرعة، إلى نشاط سياسي ومخابراتي وعسكري أمريكي منظم ومتصل ومتصاعد، خصوصا فور دخول قوات صدام حسين إلى الكويت 1990.
ومن يتفحص مذكرات السفير العراقي في واشنطن، الدكتور محمد المشاط، ويتابع رسائله المشفرة إلى وزارة الخارجية، ولقاءاته مع طارق عزيز ونزار حمدون، ثم مع صدام حسين، شخصيا، يدرك عمق التصميم الأمريكي ليس على إسقاط النظام وحسب، بل على محو الدولة العراقية القائمة واختراع دولة بديلة مفصلة على مقاس المصالح الأمريكية الظاهرة والمستترة، وإغراق الشعب العراقي في فوضى أرادوها خلاقة، فجاءت خنّاقة من نوع فريد. والمجازر التي ارتكبتها الجيوش الأمريكية ضد القوات العسكرية العراقية المنسحبة من الكويت، دليل قاطع على الرغبة في تدمير الجيش العراقي ومحوه من الوجود. وعلى من له عقل أن يفهم المقصود.
والحقيقة، للتاريخ، أن أسوأ سنوات أمريكية على العراق هي ستة عشر عاما، من أول 2001 وحتى نهاية 2017.
لأنها كانت سنوات تأسيس الحالة التي يتنشق الشعب العراقي دخانها، ويكتوي بجمرها، هذه الأيام، وربما إلى زمن قادم طويل.
ففي الثماني سنوات الأولى بالغَ واحدٌ اسمُه جورج بوش الإبن في معاقبة الشعب العراقي، وليس النظام وحده، وفي الثماني سنوات الثانية أكمل المهمة باراك أوباما المعروف بكرهه الفطري للعرب، حكوماتٍ وشعوبا، وللعراق بوجه خاص.
وفي زمن هذين الرئيسين هيّأت الولايات المتحدة للنظام الإيراني، مع سبق الإصرار والترصد، كلّ وسائل الراحة والاستجمام في العراق، ثم فتحت له طريق السياحة الحرة على شواطيء البحر المتوسط والبحر الأحمر والخليج العربي وخليج عدن، رغم أطنان البيانات والتصريحات والقرارات الأمريكية التي تدين إيران، وتدمغها برعاية الإرهاب، وتهديد أمن المنطقة والسلم العالمي وحقوق الإنسان.
والظاهر أن هذا النهج ما زال معتمدا إلى اليوم، وقد أكّدته نائبة وزير الخارجية، جينيفر جافيتو، بحديثها عن مصالح إيران الحيوية في العراق، بقولها، "الولايات المتحدة قلقة جدا من النفوذ الإيراني الخبيث، وبخاصة أنه يقوض استقرار العراق وسلامة أراضيه ومؤسساته الوطنية، وهذا حال الشعب العراقي كما رأينا بصراحة في الانتخابات". ومضت إلى القول، "لقد أوضح الرئيس بايدن أن الولايات المتحدة تسعى لحل خلافاتنا مع إيران من خلال الوسائل الدبلوماسية، ولكن هجمات المليشيات وتلقيها الأوامر من خارج العراق تقوض الدولة العراقية، وتعمل على زعزعة استقرار العراق والمنطقة ويجب أن تتوقف".
وبرغم أن أمريكا، في أربع سنوات دونالد ترامب، روجت لمقولة أن الرئيسين السابقين أساءا قيادة العالم، وأنها تريد، قولا وعملا، أن تُكفر عن ذنبها، إلا أن أحداً من ضحاياها العراقيين لم يأخذ كلامها بجد عن عزمها على إعادة إيران إلى حجمها السابق الطبيعي، داخل حدودها، وذلك لأنها استخدمت سيوف العقوبات التي تجرح فقط ولا تذبح.
إذن، فإيران باقية في العراق، وبيدها الملك كله، وهي، وحدها، التي تسمح أو لا تسمح بتشكيل حكومة، وتقرر متى وكيف يتحقق الوفاق بين (أولادها) المشاغبين المتخاصمين.
ولأنها لا ترى بين قادة البيت الشيعي، إطاريين وصدريين، رجلا يملك مقومات القيادة، ويمكن أن يشكل خطرا على مصالحها، فهي ليست في عجلة من أمرها لتفض نزاع الأخوين.
ويبدو أن من نكد الدنيا على هذا العراق الصغير المسالم الطيب الصبور أن يبقى مزرعة يتخذها المعمّمون في إيران واحة استراحة وتموين وتمويل، بأرضه وسمائه ومياهه، وبرؤسائه ووزرائهِ ونوابه وتُجّاره وعمّاله وفلاحيه وأطبائه وأدبائه ومفكريه وفنانيه، وحتى بقُضاته وقادته العسكريين أجمعين.
ولا أمل في خروج الوطن وأهله من هذه الورطة ما دامت قواعد اللعبة نفسَها باقية وبلا تغيير. ولا أمل في تغييرها في المدى المنظور.