: آخر تحديث

الحياة كما نريدها لا كما تريدنا...

30
27
38

نتشابه في أشياء كثيرة، ولعلّ أكثر ما نتشابه به هو الموت وما ينتج عنه.
الموتُ واقعٌ يحصد الضحايا بالمئات، لا يميّز بين نبات وجماد أو روح أو نفس؛ يأتي موسميًا مع اشتداد زخّات المطر وتآكل حبّات الصيف، أحيانًا يُباغتُ المنشودَ من دون موعد مسبق؛ أحيانًا يحتاج إلى دعوة رسميّة، شفهية أو حتى قلبية؛  يعود كثيرًا قسرًا بقرارٍ لاِختبارِ طيْفٍ غير مرئيٍّ أو دواء لداء أو قربان أحلام الدول وأنانية الإنسان!

هو الموت الذي لا ننفك نبحث في كيفية قهرِه، إنْ لم يكن الانتصار فلعلّه التحايل الذي يدورُ بأعمارنا في ضواحي مقاصِله العطشى المنصوبة النهمة، تسترقُّ إلى حبالها نظراتها القلقة المنتصرة المزهوة بتأخير النزال الأخير...

سنوات نمضيها فوق البسيطة ودهور نقضيها في أرحامها، تشكّلنا بالقالب الذي تريد... فما نحن إلاَّ صلصال تصنع منّا أبدع الزخارف وأواني الفخار والنبات والجماد... قد تحيلنا جماد دانة أو ألماس أو مرجان، أو وردة ربيعية تحمرُّ خجلاً مع كل عزف نسيم مغرِّدٍ محلِّقٍ نحو الأثير، أو شوكٍ يرتوي منه العطشان في الصحراء، أو شوك يقضي على كل أخضر عِرْق أو حتى فطريات...

ومع ذلك، ومع أنَّ السنوات التي يستفيق فيها الجسد معتقدًا أنَّه ربما قطع حبل الصرَّة مع الأرض التي أنببته لا تساوي شيئًا أمام الدهور التي ينتقل فيها بين عناصرها المختلفة وأشكال الحياة والجماد وحتى الغبار التي تشكّله تبعًا لها، إلاَّ أنَّ الآنَ عنصرٌ لا ينفكُّ يُعمينا عن تلمّس هذا الارتباط بين الزمن الذي لا يُدرك وذلك المُعاش، بين زمن التحولات وزمن الهيئة المحددة، بين الحياة كما نفهمها بل كما أردناها قسرًا وبين حقيقة الحياة التي هي محكومة بالاستمرارية، والتجدد، والتنامي، والتحوّل، والتراجع في بعض الملامح والإقدام في أخرى، والتألُّق بكل هيولة جديدة...

ومع أنَّ الآنَ هو الشغل الشاغل لنا، في أي مكان وزمان، في أي قُطر أو مِصرٍ أو صُقْعٍ، إلاَّ أنَّ الفعلَ ينافي ما نحن به منشغلون... منشغلون بالحياة ونحن نقضي عليها، نموت من أجل الحياة ومع ذلك يتلذَّذ الواحد منَّا في أذية الآخر، نتغزّل بجمال الحياة ونحن نقبعُ وكثيرون منّا في فساد النفايات، نرنّم اسم النور في شمس النهار وأضواء الليل ونحنُ نمكّنُ الجهل والظلام والاستبداد، نقول لفلذات أكبادنا أنَّنا نريدهم أنْ يحلقُّوا خلف النجوم فنهدم الأرض ونعيث فيها فسادًا ولا سماء تُدرك ولا نجوم نسبّح خلفها، وإنْ بُلغَ الفضاءُ مسكنًا فلن يكون لأحفاد منْ عاند فحوى الحياة وَاعتقدَ أنَّه بالقشور التي يتمسّك بها سيحقِّقُ الخلود وسيعمِّر البرَّ والبحرَ والفضاء...

لا خلودَ يُدرك، ولا عَمَارَ يَبرأ، ولا فضاء ولا بحر ولا برَّ، ونحنُ لا نزال على سيرتنا الأولى، لا نُدركُ أنَّ الحياة تقبَعُ خارجَ قفصٍ نحمَّلُه، وفي ثرى نسبغ عليه بَصْمَتَنَا كُلمَّا دبَبْنَا عبيرًا في ياسمين يسترقُّ ألَقَهُ من القمر، وتسلَّلنا نسيمًا في حفيف الشجر، وطِفنا حُبًا رذاذًا في حياضِ المُرجان، خلف كل خطوط الآفاق وآخر أنوار الشفق...
 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في