: آخر تحديث

من نافذة شرفتي

46
55
60
مواضيع ذات صلة

وقفت اليوم على نافذة الشرفة المطلَّة على الشارع العام، بمواجهة حُرْجٍ تتخلّله بعض الأبنية، التي مهما شمخَتْ، تتضاءَلُ أمام هيبة الصنوبر البري والجويِّ خاصةً عندما يُسدِل الليلُ ستارتَه عن مسرحياتِ النهار الطويل، والحائر بين حرٍّ وبردٍ في هذه الأيام.

وقفت على الشرفة، خلف زجاجها، أرْقُبُ خيالات الليل المتماوجة مع نور مصباحٍ القيَ به إلى جانب الطريق، على عمود خشبيٍّ عتيق يبدو من تجاعيده أنَّه شَهِدَ حروبًا كثيرة، وأنَّ تقلّباتِ الدهرِ لم ترحمْه، بل حفرتْ إلى جانب التجاعيد أخاديد عميقة، تخال معها أنَّه سينحني في لحظةٍ، إلاَّ أنَّه كما يبدو لم يفقد صلابته بعد ولا إرادته في البقاء حيث هو، على الرغم من أنّ نوره الأصلي الشرعي قد هجَرَه بسبب التقنين، وما عادَه إلاَّ ضوء الموتورات الخاصة لبضع ساعات فحسب، ساعات تُختصَر كلّما تابعَ النهارُ مدَّهُ على وقت الليل...

المهم، أنّي وقفتُ أرقُبُ هذه الخيالاتِ المتماوجةَ، التي بدتْ في ظل الهواء البارد الذي كان يتلاعب بها  وكأنها زخَّات من المطر الهارب من الأسر، المتسارعِ لملاقاة الحريّة والتألّقُ في شكلٍ جديدٍ من الحياة... زخات المطر هذه تتسابق، تجتهد، تتدافع في تناغم ونظام، بل يمكن القول بأنَّها كانت تتراقص وتتهادى وتتمايل، وتدور ثم تتراصُّ متشابكة الأيدي، وقد علا فرحُها ابتساماتٍ وخبطة قدمٍ هدَرَتْ إثر ملامستِها الأرض ووقوعِها عليها بكل عزيمة الشرق، وأصالة حيويته، وقِدَمِ ربابته...

وبعد اللقاء، كانت عيني تتسعُ حدقتُها لتتمكنَ مِن ملاحقة حبيبات الغبار المتصاعد مِنْ على الرصيف وما بجانبه مِن تربةٍ تآخى فيها الرمل والتراب، بالقرب من نبات الطيُّون وشتلة الياسمين الإفرنجي ذي الرائحة العطرة التي لا تكاد تتمايز عن الياسمين الوطني، ذلك أنّ  الياسمين متى التحم بأرض أخذ من ثراها ألقًا وأحالَ غذاءها عطرًا؛ إذ كان الغبار يتسابق لملاقاة بعض زخات المطر وكأنَّ هذا المارد الهابط من السماء يحمل لها الخلاص، ولن يدوسها بغير رحمة... كيف هذا التلاقي الحار والشوق الجبّار من غبارٍ فانٍ لملاقاة مطرٍ سماءٍ؟!

لعلَّ الغبارَ سئم من كونه أداة تنقلها الريح أينما شاءت، ويتقلّب بها الهواء بردَهُ وحرَّهُ على الطرقات المتسخة التي علا بعضها القمامة، وزرع فيها مارٌ عبوة بيبسي فارغة، أو يصدمها النسيمُ بمحرمة متسخة مرمية من سيّارة فارهة معتمة الزجاج في غالبية الأحيان، أو يرميها بقنينة مياه فارغة رجُلٌ يرتدي نظارة شمسية تبدو باهظة الثمن ويحمل في يده سيجارًا يتصاعد منه الدخان، أو بعقب سيجارة ترميها أنامل طولها متران بعد أنْ أنهت شفتان محقونتان عند طبيب التجميل ما فيها من مادة النيكوتين...

لعلّ الغبار تعب من هذه الحال، وأراد ملاقاة زخات المطر المتهادية المتدلِّلة، غير مستعجلة للقاء...ولذلك، لم يبقَ نظري معلّقًا على حبيبات الغبار كثيرًا، بل عُدتُ إلى خيالات الظلام المتراقصة المتماوجة في ضوء المصباح الخجول والتي تبدو زخَّاتٍ من المطر...

أترى نحن نعيش في حياتنا حبّات غبار مرمية على قارعة الطريق؟ ننظُر فَرَجًا يأتي من زخات مطرٍ قدْ يتّضح في وقت ما بأَنَّها مجرد خيالات متراقصة في ضوء ضعيف غير أصلي، يتحكَّمُ في زمن حياته رجل لا يبتغي إلاَّ الربحَ، ولو من جيَفِ الناس الكادحة في بلد هُزم فيه العقل، وسُحقت الإنسانية، وذُل المخلوق الذي قيل بأنَّ الله كرَّمه من دون سائر المخلوقات... لعلَّنا نحن الخيالات لا حبّات الغبار، نعانقُ الأضواءَ الخافتةَ معتقدين بأنّها الشمس، وإذ هي مصباحٌ خافِتٌ ملقًى على عمود رَسَمَتْ عليه الأيامُ ومآسيها وحروبُها أخاديد، وإذ نحن مجرد ظلال تنتهي مع شروق الشمس، ولا وجود حقيقي لنا...

المهم، أنّي وقفت لا أعلم لِكَمْ من الوقت، سارحةً ما بين سماءٍ تلامسُ الأرضَ، وأرضٍ تنتفضُ لتلامسَ السماءَ، ظلالٍ زخاتٍ وغبارٍ يتقابلان في ساحة تلاقٍ حيثُ لا لقاء... وقفتُ وتمَّهلتُ النُعاسَ لأعرف النهاية، المصير؛ وإذا بالستار يُسدل من دون حذاء سندريلا المنسيِّ على أحد الأدراج؛ فقد قُطعت عن الفانوس الكهرباء...


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في فضاء الرأي