: آخر تحديث

صراع خفي روسي ــ أوكراني في مالي

3
3
4

لم تعد الحرب الروسية – الأوكرانية بكل تعقيداتها محصورة في حدود أوروبا الشرقية؛ أي في المجال الحيوي لأمن الاتحاد الروسي، بل أخذت تداعياتها بعداً جيوسياسياً يتجاوز القارة الأوروبية، ليصل إلى فضاءات بعيدة مثل الساحل الأفريقي. ففي مالي التي تعيش منذ سنوات أزمة أمنية وسياسية متشابكة، بدأت المؤشرات تتوالى عن صراع نفوذ خفي بين موسكو وكييف، في وقت تزدحم فيه الساحة بفاعلين محليين وإقليميين ودوليين.

منذ سقوط الشراكة التقليدية مع فرنسا، اتجهت باماكو بقوة نحو روسيا التي سرعان ما عززت وجودها عبر المستشارين العسكريين والمجموعات شبه النظامية. هذا الحضور لم يعد خافياً؛ إذ إن الحكومة المالية باتت تعتبره إحدى ركائز استراتيجيتها الأمنية لمواجهة الجماعات المسلحة في الشمال والوسط. وفي المقابل، يرى مراقبون أن أوكرانيا، المنهمكة في حربها مع روسيا على أراضيها، لا يمكنها أن تبقى بعيدة عن الساحة الأفريقية، حيث قد يشكل إضعاف النفوذ الروسي مكسباً معنوياً وسياسياً.

هذه المعطيات أفرزت أحاديث عن «صراع خفي» بين البلدين في مالي، وإن كان يختلف عن المواجهة المباشرة في أوكرانيا؛ فالتنافس هنا يأخذ طابع الاتصالات غير المباشرة والتحركات الدبلوماسية والاستخباراتية، في ظل غياب أي وجود عسكري معلن لكييف. لكن مجرد تداول هذه الأحاديث يكشف إلى أي حد أصبحت مالي جزءاً من خريطة التنافس الدولي.

إلى جانب هذا البعد الدولي، يظل موضوع تهريب السلاح أحد أبرز مصادر القلق في المنطقة؛ فقد شدد وزير الخارجية الموريتاني في تصريحات علنية على أن موريتانيا ليست ممراً للأسلحة، مؤكداً التزام نواكشوط بضبط حدودها ومكافحة أي نشاط قد يهدد الاستقرار. وأوضح أن بلاده تتحمل أعباء كبيرة لمراقبة حدود طويلة معقدة التضاريس، في مواجهة مسالك تستخدمها الجماعات المسلحة منذ عقود. لكن الميدان يكشف أن الحركات الأزوادية التي تملك خبرة طويلة في القتال والتنقل في الصحراء، ما زالت قادرة على استغلال المسالك الصحراوية المفتوحة والطرق الجبلية الوعرة لإدخال الأسلحة. هذه المسالك ليست جديدة؛ فقد استخدمتها من قبل تنظيمات متشددة مثل «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي»، وفصائل أخرى مرتبطة بها. الأمر الذي يجعل من شبه المستحيل فرض سيطرة كاملة، خصوصاً في مناطق مترامية الأطراف يصعب الوصول إليها.

بالنسبة إلى موسكو، فإن مالي تمثل بوابة استراتيجية إلى أفريقيا جنوب الصحراء، وجزءاً من حضور يتوسع في دول أخرى مثل أفريقيا الوسطى وبوركينا فاسو. روسيا لا تخفي رغبتها في ملء الفراغ الذي تركته فرنسا، وتقديم نفسها كحليف أمني بديل قادر على مواجهة الإرهاب. أما أوكرانيا، فرغم أن حضورها لا يزال في مستوى الشبهات أكثر منه في مستوى الوقائع، فإن مجرد الحديث عن تحركاتها في المنطقة يعكس إدراكاً بأنها تسعى لإضعاف الذراع الأفريقية لروسيا.

التنافس بين موسكو وكييف في مالي لا يحدث في فراغ؛ فالقوى الغربية، من الولايات المتحدة إلى الاتحاد الأوروبي، تتابع عن كثب المشهد، خشية أن تتحول منطقة الساحل إلى مسرح لتصفية الحسابات الدولية. فرنسا التي خسرت موقعها التقليدي في باماكو، ما زالت تحاول إعادة التموضع عبر النيجر وتشاد، في حين ينظر الأوروبيون بعين القلق إلى توسع النفوذ الروسي في منطقة حيوية لأمنهم الاستراتيجي.

وبينما تتصارع هذه القوى، يظل المدنيون في شمال مالي وأزواد أكبر الخاسرين؛ فالمنطقة تشهد منذ سنوات توتراً متصاعداً بين الدولة المالية والحركات الأزوادية، زادت من حدته تعقيدات الوجود «الجهادي» والتحولات الدولية. في هذا السياق، يصبح تهريب السلاح ليس مجرد نشاط غير قانوني، بل جزء من شبكة معقدة تتغذى على الحاجة، والفقر، وانعدام الأمن، وتتقاطع فيها مصالح محلية مع حسابات دولية.

المفارقة أن الحرب الروسية – الأوكرانية، رغم بعدها الجغرافي، ألقت بظلالها على مشهد إقليمي هش، وجعلت مالي في قلب لعبة نفوذ دولية تتجاوز حدودها بكثير. وبينما تحاول باماكو الاستفادة من الدعم الروسي لتثبيت سلطتها، تبقى المنطقة معرضة لتقلبات الصراع الدولي، سواء عبر تدفقات السلاح أو عبر شبكات النفوذ السياسي والإعلامي.

في النهاية، يمكن القول إن الصراع الخفي بين روسيا وأوكرانيا في مالي تحديداً، وفي بلدان الساحل الأفريقي عموماً، هو وجه جديد لحرب عالمية بالوكالة، تتحرك بصمت في الكواليس أكثر مما تظهر في العلن. وإذا كان المسؤولون في نواكشوط يؤكدون النأي ببلادهم عن هذه التداخلات، فإن التحدي الحقيقي أمام دول الساحل يكمن في منع تحول أراضيها إلى ساحة مواجهة إضافية بين موسكو وكييف؛ ذلك أن الجغرافيا في زمن الحروب الحديثة لم تعد حاجزاً، بل جسر تعبره التوترات من كييف إلى باماكو، مروراً بالصحاري والجبال التي طالما شكلت مسرحاً للتهريب والصراعات.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد