هل سيكون انهيار النظام في إيران، إن حدث، وتبعاته على إيران والإقليم كله، مختلفاً عما جرى في العراق بعد الحرب الأميركية عام 2003؟ لا شيء حتى اللحظة يشي بغير ذلك، بل إن ما نرصده الآن من تصدعات داخل البنية السياسية والاجتماعية الإيرانية يوحي بأننا مقبلون على إعادة صياغة للشرق الأوسط من الداخل، لا فقط عبر سياسات الكبار من الخارج.
الضربة الأميركية على منشأة «فوردو» النووية جاءت تتويجاً لتصعيد إقليمي ابتدأ في 13 يونيو (حزيران) 2025 حين شنت إسرائيل هجماتها الجوية الأولى. لم تكن هذه الضربة مجرد تكتيك عسكري أو ردع نووي، بل بداية لتحول كبير في منظومة الأمن الإقليمي، تماماً كما كان غزو العراق في 2003 لحظة مفصلية في تغيير طبيعة الدولة ووظيفتها، ليس فقط في العراق، بل في النظام الإقليمي برمته.
هذا المقال اليوم يتناول: القوى ما تحت الدولة. والمثير ملاحظة أن تفكك الدولة المركزية في إيران لا يُحتمل أن يعيد ببساطة سيناريو العراق؛ فالظروف الداخلية، والوعي الجمعي، والبنية المجتمعية في إيران، رغم تشابهاتها مع العراق، تملك خصوصيات تجعل من الممكن أن نكون أمام شكل جديد من أنماط التفاعل داخل النظام الإقليمي. والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: هل سيقود فشل الدولة المركزية إلى تشظٍّ هويّاتي، بحيث تلجأ الجماعات الإثنية والمذهبية - من أكراد وسنة وبلوش وعرب – إلى الطائفة أو العِرق بوصفه ملاذاً أمنياً؟
في هذا السياق، تبرز أهمية ما قدمه باري بوزان ورفاقه في «مدرسة كوبنهاغن» من تصور للأمن الإقليمي، والذي يتجاوز النظرة الواقعية التقليدية التي تركز على الدول فقط. وفق بوزان، فالنظام الإقليمي ليس فقط مجموعة من الدول، بل مجموعة من الوحدات الهوياتية التي تتفاعل على مستويات متعددة من الأمن: العسكري، والسياسي، والاقتصادي، والمجتمعي، والبيئي. وعند انهيار الدولة المركزية، تظهر «وحدات فرعية» تنخرط في علاقات أمنية تتجاوز الدولة، وقد تتحدى حدود السيادة ذاتها.
إيران ما بعد النظام، إن حدث الانهيار، ستواجه لحظة فارقة؛ فالجماعات التي كانت مكبوتة داخل البنية الإيرانية الصلبة، ستسعى لتأمين نفسها أولاً، لا عبر الدولة أو في إطارها، بل من خلالها وضدها في آنٍ معاً. هنا يظهر نموذج «الهويات كمصادر للأمن»؛ إذ تصبح الطائفة أو الإثنية مصدر الشعور بالحماية.
ولعل ما تنبّه إليه زميلنا غريغوري غوز في دراسته لتوازنات ما بعد صدام حسين، يصلح إسقاطه هنا: لم يتم استبدال الفوضى باستقرار إقليمي، بل بمرحلة من «التنافس عبر الدول المفككة»، وهي لحظة غير تقليدية يصبح فيها الأمن قضية تُدار بين وكلاء يعملون «تحت الدولة»، كـ«الحشد الشعبي» في العراق، و«حزب الله» في لبنان، و«الحوثيين» في اليمن. لا أحد من هؤلاء يطمح لبناء دولة، بل لاحتكار العنف ضمن فضاء معين من الفوضى.
لن يختلف الأمر كثيراً في الحالة الإيرانية؛ فمن المرجّح أن نشهد ظهور جماعات مماثلة لتلك التي ظهرت في العراق، بل أشد شراسة. ولن يكون هذا مجرد امتدادات للأحزاب الكردية العراقية، بل فصائل بلوشية وسنية، وحتى قومية فارسية راديكالية. ولعل سيناريو الفوضى المنظمة هو أكثر السيناريوهات قرباً إلى الواقع الإيراني المحتمل: سلطة تتلاشى تدريجياً، مقابل لاعبين جدد يمسكون بمفاصل العنف، ويعيدون بناء «مجتمعات أمنية» جديدة على أنقاض الدولة القومية. طبعاً لا أحد يتمنى انهيار الدولة في إيران، ولكن لا بد من التفكير وتركيز الأذهان في ما يخص الأمن الإقليمي بعد الهجوم الأميركي على إيران.
هناك تبعات أخرى تخص الدول ليس هذا مجالها؛ لأنها ليست نقطة هذا المقال، مثل أن تنهار معاهدة عدم الانتشار النووي كليةً نتيجة للسلوك الأميركي والإيراني المخالفين للقانون الدولي وللمعاهدة. ولكن بالعودة إلى «قوى ما تحت الدولة»، يجب التنبّه إلى أن انهيار الدولة لا يعني بالضرورة الفوضى الشاملة أو التكرار الحرفي للنموذجين العراقي أو الليبي. في سوريا، حافظ النظام على شكل من السلطة رغم التمزقات، وهو ما يمكن أن يحصل في إيران إن حافظ «الحرس الثوري» أو أحد أجنحته على مفاصل القوة، ونجح في إعادة تأطير المشهد حول آيديولوجيا جديدة أو قيادة رمزية.
ملامح النظام الإقليمي الجديد، رغم أن الضربات الأميركية يمكنها أن تطلق شرارتها كما حدث في العراق، فإن الولايات المتحدة لن تكون هي صانعة الحدث الإقليمي. الحدث الإقليمي يتبلور وتنتجه التفاعلات الداخلية في المجتمعات نفسها. وإيران، إن انهارت، لن تسقط وحدها، بل ستجرّ وراءها منظومة من التحالفات والخصومات والولاءات الجديدة، قد تجعل من الشرق الأوسط مسرحاً لإعادة تعريف ما تعنيه الدولة، والسيادة، والأمن... لعشرين عاماً قادمة.
السؤال الذي يجب أن ينبَّه إليه قادة الإقليم الذين يحبون إيران والذين يكرهونها على حد سواء، هو: هل سيكون انهيار النظام الإيراني بداية لفوضى شاملة، أو فرصة لإعادة بناء نظام إقليمي أكثر توازناً؟ جزء كبير من الجواب عن هذا السؤال تملكه جماعات لا نعرفها، كالتي ظهرت في العراق من بين ركام الدولة. هناك مستويات أخرى للتحليل نناقشها في مقال قادم.