: آخر تحديث

العين بصيرة واليد قصيرة

0
0
0

سليمان جودة

آخر التقارير المنشورة عن تلوث الهواء حول العالم، تقول إن الفلاسفة الذين دعوا إلى العودة للطبيعة كانوا على حق تماماً، وأن الذين سخروا من دعواتهم مدعوون إلى الاعتذار لهم، وأن أحداً بيننا إذا كان في مقدوره أن يستجيب لتلك الدعوات القديمة، فإنه يجب ألا يتأخر، وأن يبادر بالعودة إلى الطبيعة كلما استطاع ذلك، أو وجد إليه سبيلاً.

ولو أن هذا الأحد قرأ شيئاً مما أذاعته قاعدة البيانات السويسرية المعنية بمراقبة جودة الهواء، فسوف يكتشف أن تلوث الهواء صار هو القاعدة تقريباً في أنحاء المعمورة، وأن عدم تلوثه أصبح هو الاستثناء، وأن هذا هو ما يخيف في الموضوع.

قاعدة البيانات السويسرية يعرفها المتخصصون باسمها الذي تشتهر به، وهو «آي.كيو.إير»، وهي قد قالت في آخر تقرير صادر لها في العاشر من هذا الشهر، إن 17 % من المدن حول العالم، هي فقط التي تلتزم بإرشادات جودة الهواء، وأن بقية المدن لا تلتزم، وأن ذلك له عواقبه على صحة الناس في كل مكان، لأن القلة بين المدن هي التي تلتزم، أما الكثرة فلا تلتزم، ولا تنتبه لخطورة تلوث الهواء على صحة الإنسان في العموم.

وإذا شئنا، فلنتحدث لغة الأرقام التي لا تكذب، والتي حين تقول فإنها تظل صادقة في ما تقوله، فإذا كانت الجهة التي تتكلم هذه اللغة، هي منظمة الصحة العالمية من مقرها في جنيف السويسرية، فإنها تخاطب كل الدول، ولا تخاطب دولة بعينها، كما أنها تقرع الجرس، لعل الذين يعنيهم الأمر ينتبهون إلى أن التصاعد في تلوث الهواء لا بد أن يتوقف. المنظمة تقول إن 7 ملايين إنسان يفقدون حياتهم في كل سنة بسبب تلوث الهواء، وإن هذا الرقم مرشح للارتفاع طول الوقت، ما دامت الحكومات في عواصم صناعة القرار الكبرى، لا تدرك عواقب تلوث الهواء على الصحة العامة.

وليس سراً أن الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، ما كاد يدخل مكتبه في العشرين من يناير الماضي، حتى كان قد سارع إلى الإعلان عن انسحاب بلاده من هذه المنظمة، وكان النبأ بمثابة الصدمة لكل الذين يعرفون أهمية أن تكون منظمة الصحة العالمية بالذات، قادرة باستمرار على أن تتعرض للقضايا الصحية التي تدخل في نطاق اختصاصها، باعتبارها المنظمة المعنية بقضية الصحة عالمياً، وباعتبار أنها منظمة لا بديل لها في مجالها.

لم يذكر ترامب شيئاً عن سبب قراره، ولكن الأجواء التي صدر فيها القرار، انطوت على تلميحات إلى أن الرئيس الأمريكي يرى أنها كمنظمة من بين منظمات الأمم المتحدة المتخصصة، لم تكن أمينة مع الناس في أرجاء الكوكب أيام وباء «كورونا».

وما يقال عن دوافع قرار سيد البيت الأبيض ليس جديداً، لأنه قيل في أيام الوباء، وفي مرحلة ما بعد الوباء، ولم يكن محل تحقيق، لنرى ما إذا كان صحيحاً أم لا؟.. وحتى لو ثبت أنه صحيح، وأن المنظمة تواطأت في موضوع الوباء، فإن الحل لا يكون بإعدام المنظمة، ومنع التمويل الأمريكي عنها، خصوصاً أن حصة واشنطن في ميزانيتها كبيرة، ولا نتيجة متوقعة لوقف الحصة الأمريكية عنها، سوى عجزها عن القيام بما يتعين عليها أن تقوم به إزاء الناس في كل مكان من هذا العالم.

ومما زاد الطين بلة، كما يقال، أن انسحاب الولايات المتحدة لم يكن من منظمة الصحة العالمية وحدها، وإنما قرر ترامب الانسحاب كذلك من اتفاقية المناخ، التي كانت بلاده قد وقّعت عليها في أيام الرئيس الأسبق باراك أوباما!.. فكأن الضربة لقضية الهواء الذي نتنفسه ضربتان، لأن انسحاب واشنطن من اتفاقية المناخ، معناه تحللها من التزاماتها تجاه تغيرات المناخ، ولأن انسحابها من الصحة العالمية معناه أن تبقى المنظمة غير قادرة على القيام بما يتعين عليها أن تقوم به في المجال الذي نشأت من أجله، وفي إثارة الاهتمام على الدوام بقضية الصحة العامة بين الدول الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة في نيويورك.

لا تملك، وأنت تطالع ما تقوله المنظمة السويسرية المعنية بمراقبة جودة الهواء، إلا أن تقول إن هذا عالم ينتحر أو يريد أن ينتحر، ولا تملك إلا أن تقول الشيء ذاته وأنت تتابع حال المنظمة المعنية بالصحة في أنحاء العالم، فالعين بصيرة في الحالتين واليد قصيرة، ولكن هذا يجب ألا يجعلنا نفقد الأمل في يوم تكون حياة الإنسان فيه أفضل على ظهر هذا الكوكب، الذي عانى أكثر ما عانى من بني الإنسان.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد