لجامعة القرويين بفاس تاريخ ودور كبير في تكوين العلماء ونشر نور الفهم والتجديد عبر القرون ليس في المغرب فقط وإنما في العالم بأسره، والتي بدونها ما بقي الحرف العربي بالمغرب ولما ازدهرت الحضارة الإسلامية بهذه الديار، وماذا تكون فاس لو لم تكن بها هاته الجامعة؟ و
جامعة القرويين هي أول جامعة أنشئت في تاريخ العالم، وقد قامت ببنائها السيدة فاطمة بنت محمد الفهري عام 245هـ/ 859م، وهذا المشروع ظل إلى اليوم شامخاً ناطقاً يرفع من شأن المرأة المسلمة إلى يوم الدين.. وحسب موسوعة جينيس للأرقام القياسية فإن هذه الجامعة هي أقدم واحدة في العالم والتي ما زالت تُدرس حتى اليوم. وقد سبقت الزيتونة بتونس والأزهر بمصر، كما أنها تعد أقدم من جامعات أوروبا بمائتي عام إلا تسع سنين: فقد تأسست أول جامعة في أوروبا وهي جامعة ساليرن سنة 1050 ميلادية في إيطاليا، ثم أصبحت معروفة بمدرسة نابولي. ثم تأسست جامعة بولونيا للحقوق. ثم جامعة باريس، ثم تأسست جامعة بادوا سنة 1222م، ثم جامعة أكسفورد عام 1249م، ثم جامعة كمبدرج عام 1284م وجامعة سالامانكا في إسبانيا سنة 1243م. أما جامعة القرويين فهي أقدم جامعة ظهرت قبل أوروبا بمائتي عام إلا تسع سنوات.
وهاته الجامعة معروفة بكراسيها العلمية؛ وفي هذا الباب وتنافسا مع المدرسة المستنصرية ببغداد نرى الجامعة تزداد بمدارس تحاكي هذه الأحياء الجامعية التي يعتبرها العصر الحديث من حسناته، فبعد مدرسة الحلفاويين كانت مدرسة فاس الجديدة، ثم مدرسة الصهريج، ومدرسة العطارين، ومدرسة الوادي، ومدرسة الخصة، ومدرسة أبي عنان، وكل هذه المدارس تحتوي على قاعة للدرس.. يختلف عليها أستاذان، لكل منهما أوقاف خاصة، وإلى جانب هذه الأحياء الجامعية كانت خزانة الملك أبي يوسف وأبي عنان من بني مرين، ثم المنصور السعدي، هذه الخزائن التي تكون اليوم (خزانة القرويين) ذات الشهرة العالمية والمليئة بالمخطوطات الثمينة التي لا توجد إلا فيها، ومنها أرجوزة ابن طفيل في الطب وأجزاء من إنجيل القديس لوقا ويوحنا..
وعلى نهج ما استمر عليه العمل بالأندلس والمشرق، فإن الطلبة يحلقون على الأساتذة حلقاً متوالية، وقد تبلغ الحلقات إلى عشرين أو تزيد، وربما اختلط بالطلاب علماء رأوا من المفيد بالنسبة إليهم أن يستمعوا إلى وجهة نظر خاصة، وربما استمر الدرس الواحد من الشروق إلى الزوال، ويغلب أن يخصص الصباح لدروس الفقه وما بعد الزوال للعلوم الأخرى، أما عن أمد الدراسة فقد تحدد في هذه المرحلة إذ كان لا يتجاوز سبع سنوات، وقد كان على «الأوقاف» طوال هذه المدة أن تؤوي الطلاب وتمونهم..
ومن أبرز ما عرفته القرويين في هذه الفترة نوع من الامتحان الذي يجري الآن في الدول المتحضرة تخريج الأساتذة المبرزين، ذلك هو نظام «الإجازة» وان أخص ما توصف به مناقشة نيل الإجازة أنها كانت بحق مجازاً عسيراً لا يقتحمه سوى الأكفاء المقتدرين.
والذي يعني بتاريخ القرويين لا بد أن يجد متعة في الحديث عن «العادة» التي اكتسبتها القرويين منذ فجر الدولة العلوية، فلقد قرر العاهل المولى الرشيد أن يمنح عطلة ربيعية للطلاب الذين رافقوه في المعركة ضد الإقطاعية، فأضافوها إلى العطل التي عرفوها وقد أعطاهم «حق» تنصيب سلطان عليهم أثناء العطلة، يرشح هذا السلطان نفسه من بين الطلبة الآفاقيين بعد أن يشتري سلطنته «بالمزاد العلني»..
يعيش سلطان الطلبة في هذا الجو المرح زهاء أسبوع كامل على ضفاف وادي الجواهر من مدينة فاس، والحديث عن سلطان الطلبة جميل، والعادات التقليدية التي كانت تجري بمناسبة تنصيبه تدل على مدى تكريم السلطة المركزية للمعاهد العلمية فأنت تشهد سلطان الطلبة في جماعة من وزرائه وأعيان دولته، يستقبل عاهل البلاد الذي يزوره في حاشيته، ويتبادل «الملكان» التحية ولا تكاد أحياناً تميز بين «ملك سبعة أيام» وبين الملك الحقيق.. وأخيراً يقفل العاهل إلى قصره بعد أن يقدم «للمملكة العلمية» أحمالاً من السكر والسميد وقوارير من الزبد والسمن، وأكياسا من النقود، وقطيعاً مهماً من الغنم.
وتؤكد المصادر أنه كان بفاس في عهد السلطان سيدي محمد بن عبد الله (محمد الثالث) الذي راح يكون للقرويين «ملفاً» خاصاً بها سنة 1123هـ (1788 - 1789م)، أزيد من مائة وعشرين كرسياً لتدريس العلم موزعة على مختلف فروع القرويين «المائتين والخمسين» المنبثة في كل منعطف، وفي كل زقاق وعلاوة على ست ومائة مدرسة أولية من بينها دور للفقيهات، ومن تلك الكراسي يوجد عشرون كرسياً بجامع القرويين نفسها يجري العمل في نيلها على نهج الأكاديميات الأصيلة..