في مطلع عام 2018، وبينما كان الرئيس الأميركي آنذاك، دونالد ترمب، مُستقراً في مقعده بالبيت الأبيض، حملت الأنباء تصريحاً للزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون، يقول فيه إن «الزر النووي موجود دوماً على مكتبي»، في إشارة إلى أن بلاده تحوّلت قوة نووية، وأنه قادر على استخدام هذا السلاح ضد أي عدو بمجرد ضغطة على هذا الزر.
لم يترك الرئيس الأميركي ترمب آنذاك الفرصة تمر من دون أن «يُغرد»، مُعلقاً على ما قاله نظيره الكوري الشمالي. ولذلك، فقد سارع إلى بث تلك العبارة على موقع التغريدات الشهير «تويتر» («إكس» حالياً): «هلّا يبلغه أحد في نظامه المتهالك والمُتضوّر جوعاً بأنني أنا أيضاً لديّ زر نووي، ولكنه أكبر وأقوى من زره، وبأن زري يعمل».
ولأن ترمب سيعود إلى البيت الأبيض رئيساً مرة أخرى، بعد فوزه في الانتخابات الأخيرة ضد منافسته الديمقراطية كامالا هاريس، فإن استدعاء تلك القصة وغيرها من القصص المثيرة المشابهة، سيكون مُهماً للتعرف إلى الطريقة التي سيتفاعل بها الرئيس العائد مجدداً إلى السلطة مع وسائط الإعلام، ومع الإفادات السياسية لنظرائه، ومع الاستجابات الاتصالية الحيوية المتعلقة بمنصبه؛ أي إلى طريقته في إدارة الاتصال السياسي.
كان ترمب هو نفسه الذي غرّد، في شهر أكتوبر (تشرين الأول) 2017، قائلاً: «ربما لم أكن لأصل إلى البيت الأبيض لولا (تويتر)»، قبل أن يصف مواقع «التواصل الاجتماعي» بأنها «منصة هائلة»؛ وهو الأمر الذي عكسته دراسات أجرتها مراكز بحوث مُعتبرة، حين أفادت بأن معظم قادة العالم يستخدمون تلك الوسائط في بث رؤى، ومعلومات، بل وقرارات ذات طابع سيادي.
ومن جانب آخر، فإن ترمب لديه قصة مثيرة مع منصات الإعلام «التقليدية»؛ إذ ينتقدها بانتظام ويراها ميداناً لـ«الكذب والتضليل»، ورغم أن بعض المؤسسات الصحافية المرموقة اتخذت قرارات لافتة ونادرة بعدم إعلان تأييدها لأي من المرشحين المتنافسين في الانتخابات الأخيرة، فإن ترمب لم يُظهر أي إشارات إلى تغيير موقفه الناقد لعالم الإعلام «التقليدي»، الذي ما زال بدوره مجالاً غير مواتٍ، في الغالب، لسياساته وتصريحاته وتوجهاته العامة.
وكذلك، رغم البداية الودية في علاقة ترمب بعالم «التواصل الاجتماعي»، واعتماده الجوهري على منصة «تويتر» («إكس» حالياً) كأداة اتصال سياسي وإعلامي رئيسة له ولحملته في انتخابات 2016 ولإدارته السياسية لاحقاً، فإن تلك العلاقة شهدت انتكاسة كبيرة، حين حظره «تويتر» في عام 2021، بداعي بثه إفادات «مُحرضة على العنف»، بعد أيام قليلة من اقتحام أنصاره مبنى الكابيتول الأميركي (الكونغرس)، في يناير (كانون الثاني) من العام نفسه.
ولم يكن السماح بإعادة ترمب إلى «تويتر» لاحقاً بقرار من إيلون ماسك، مالك الموقع والملياردير الأميركي الشهير، كافياً لكي يشعر ترمب بالرضا أو الاقتناع، بل إنه راح يُدشّن منصته الخاصة «تروث سوشيال»، التي أضحت لاحقاً لسان حاله، ومنصة التواصل السياسي الرئيسة التي يستخدمها في أنشطته كلها.
وفي الأسبوع الماضي، تداولت وسائل الإعلام قصة لافتة عن فيلم وثائقي أعدّه الإعلامي الشهير تاكر كارلسون، ليشرح من خلاله كواليس الحملة الانتخابية للرئيس المُنتخب تواً، وأظهر هذا الوثائقي ترمب جالساً إلى جانب مساعدته ناتالي هاربي، التي تأخذ تعليقاته المباشرة على صور وتصريحات من حملة منافسته كامالا هاريس، لتكتبها سريعاً، قبل أن يُلقي عليها نظرة أخيرة، ويعقبها بإيماءة بالموافقة، لتقوم بنشرها على «تروث سوشيال».
يشير ذلك بوضوح إلى آلية الاتصال السياسي التي يعتمدها سيد البيت الأبيض العائد من جديد إلى سدة أخطر منصب في العالم؛ وهي آلية يمكن وصفها بصفتين: الفورية، وعدم الاحتراز.
فبدلاً من صياغة السياسات الاتصالية لقائد مثل ترمب بواسطة فرق من الخبراء المتخصصين، بما يضمن سلامتها وانضباطها وتعبيرها عن مواقف رسمية محسوبة بدقة، فإنه سيُطلق العنان لنفسه لتحديد تلك السياسات وتفعيلها في لحظات معدودة... من دون تروٍّ أو حسابات.
وبسبب المرارات المتراكمة التي يشعر بها ترمب تجاه وسائل الإعلام «التقليدية»، واقتناعه البادي بأنها عاندت مشروعه السياسي، و«تلاعبت» لتقليص حظوظه، فإنه لن يهتم بالتعاون معها خلال ولايته الجديدة. وبسبب عدم ثقته في معظم الشبان، الذين يديرون منصات «التواصل الاجتماعي» البارزة، باستثناء ماسك - الذي بات أحد أركان فريقه وأبرز داعميه - فإنه سيظل يُعوّل على منصته الخاصة «تروث سوشيال».
سيشكل هذا نهاية لعصر الاتصال السياسي الأميركي التقليدي، الذي عهدناه لعقود، وسيُدشن عهداً جديداً، يختصر فيه القائد المجال الاتصالي كله في وسيلته الخاصة، التي سيتحدث من خلالها فوراً، وبلا حسابات.
وهنا ستتوالى المفاجآت، وسيكون بعضها مُذهلاً.