عبدالرحمن الحبيب
الكتاب القصير الذي تم الاستخفاف به لفترة طويلة، يبدو أنه بدأ ينمو في ظل تقلص الكتاب العادي والمجلدات.. ففي العصر الرقمي حيث تنهمر المعلومات يصبح الاختصار أمراً فعالاً بل وذكياً.. الكتاب القصير يمكن حمله في الجيب والاطلاع عند الاسترخاء في إجازة، عند الانتظار في المطار أو العيادة او أي مكان، أو في أي لحظة خاملة ومملة.. لكن ماذا عن الشاشة الصغيرة في هاتف الجوال أو اللابتوب أليست تكفي؟ المعلومات والمعارف والفنون والآداب بكافة أشكالها متوفرة بضغطة زر عبر المشاهدة ألا تطغى على القراءة، سواء من كتاب عادي أو قصير أو إلكتروني؟ هل انتهى زمن الكتاب؟
ثمة من يرى أن الكتاب الورقي لن ينتهي لكن ستتغير وظيفته.. وهناك من يؤكد أن الكتاب سينتهي زمنه سواء كان ورقياً أو إلكترونياً.. بل ظهر من يرى أن القراءة نفسها ستنتهي بعد عدة أجيال، فإذا كنا نشهد تحولاً سريعاً في وسائل التعبير والتواصل، تتراجع فيه الكلمة المكتوبة أمام الوسائل البصرية المسموعة، فإن التغيّر الجذري والصدمة الكبرى لم تحن بعد فقد نشهد قريباً اضمحلال القراءة والكتابة نفسها وربما بداية اندثارها مستقبلاً واستبدالها بنقل المعلومات والمعارف عبر الوسائل المشهدية..
الفكرة هنا أن الحالة المشهدية تختلف عن الكلمة المكتوبة بأنها تتوجه إلى جزء مختلف تماماً من الدماغ يستوعبها العقل بسهولة حسب الدراسات العلمية، نحن بالأساس نعلم أن الأحاسيس البصرية والسمعية تمثِّل حالة طبيعة غريزية للإنسان منذ ولادته بينما الحروف الكتابية هي رموز مخترعة لتلك الأحاسيس؛ رموز معقدة يظل يتعلّمها الطفل لسنوات عديدة.. والآن، في المجال التربوي نلاحظ تزايد استخدام الوسائل السمعية البصرية في مناهج الدراسة باعتبارها أوضح وأسهل ومختصرة ومعبِّرة أكثر مقارنة بوسيلة الكتابة.
«اختراع ثقافتنا للكتابة والقراءة ما هو إلا حادث عابر. إنه عمل مصطنع ثقافياً طورناه، لكنه ليس ضمن طبيعة البشر. ولن نحتاج، بعد قرنين، لهذه الوسيلة لبث المعرفة» حسبما يقول عالم الأعصاب مارسيل جاست من جامعة كارنيغي ميلون، ولاية بنسلفانيا. يذكر جاست أن مخ الإنسان الأول مصقول بحس بصري دقيق وإمكانية المسح الواسع للمشهد ورؤية أقل حركة فيه: أسد في الظلال أم كرمة توت مخفية؟ أما القراءة فهي ملكة صعبة تقنياً تتطلب سنوات من التعليم، بينما دماغنا البصري يتعود دون أي جهد تقريباً على ألعاب الفيديو.
إلا أن هناك من يطرح أنه يمكن للكتاب الورقي اليوم أن يفتخر بقدرته على التواصل باستخدام الحواس الخمس، وأن لديه الكثير مما يستحقه، حسبما يطرحه الفيلم الوثائقي The Book Makers (صُنَّاع الكتاب)، الذي يستكشف المرونة الرائعة للكتاب مع أبعاد وزوايا لم تلحظ من قبل: التكنولوجيا الرقمية حررت الكتاب الورقي من وظيفته الأصلية في نقل المعلومات؛ وانتهى الالتزام بنقل قوائم الحقائق والبيانات القديمة بسرعة؛ وتحرر من «عبء القيام بالعديد من المهام التي تؤديها المعلومات الرقمية بشكل أفضل»، لذا فالكتاب في القرن الحادي والعشرين «يولد من جديد تمامًا ويعاد اختراعه»، كما يقول المؤرخ آبي سميث رومسي.
ما الذي يجب أن تصبح عليه الكتب في العصر الرقمي؟ تظهر بعض الإجابات في الفيلم عبر لمحات عن مجموعة منتقاة من محبي الكتب الذين كرسوا حياتهم لإبقاء الكتب حية: من العالم الداخلي لفناني الكتاب إلى المكتبات الرقمية لأرشيف الإنترنت، يروي الفيلم قصة الحيوية الدائمة للكتاب عبر رحلة ممتعة في العملية الدقيقة لإنشاء الكتب المصنوعة يدويًا، بشكل تقليدي وغير تقليدي، في مجموعة متنوعة من الأساليب والوسائط. ينتقل الفيلم من نيويورك إلى الغابة السوداء في ألمانيا، ويبلغ ذروته في معرض المخطوطات في سان فرانسيسكو، حيث يتجمع طاقم الشخصيات لبيع كتبهم لهواة الجمع من الجامعات والمكتبات، وللمشترين الفضوليين من جميع أنحاء العالم.
ثمة دور آخر للكتب، فقراءتها تساعدنا على تطوير مهارات التفكير النقدي لدينا وتقييم المعلومات بشكل فعال، لأننا عندما نقرأ الكتب، نتعرض لوجهات نظر وتجارب وثقافات وأفكار مختلفة، بينما في الإنترنت غالباً ما تأتينا خياراتنا المفضلة وليست المختلفة مع أذواقنا وأفكارنا، مما يساعدنا على تكوين آرائنا الخاصة واتخاذ قرارات مستنيرة وأن نصبح أشخاصًا أكثر تفهمًا وتعاطفًا. بالإضافة إلى ذلك، للقراءة عدد من الفوائد الأخرى. يمكن أن يساعدنا على الاسترخاء والتخلص من التوتر، وتحسين نوعية نومنا، وزيادة مفرداتنا.
في خضم انهمار الصور والفيديوهات في الزمن الرقمي، حيث يقضي الكثيرون أوقاتهم أمام الشاشة، يظهر الكتاب القصير كأحد خيارات التنويع.. بالإضافة إلى الأعمال الفنية الرائعة، فإن أي كتاب «محدود، يعني أنه سهل الإدارة والهضم»، كما يقول سام وينستون، وهو فنان مقيم في لندن.. «إذا كنت تعيش في عصر يكون فيه التحفيز المفرط واضحًا جدًا، فإن الكتب هي أحد الطرق التي يمكنك من خلالها العودة إلى مستوى حسي مختلف.» في السابق قيل إن السينما ستزيح المسرح، لكن ذلك لم يحصل! لكن قيل إن الكتاب المطبوع سيزيح الكتاب المخطوط يدوياً، وهذا حصل فعلاً.. وبين هذين المثالين يبدو الكتاب الورقي أقرب للمثال الثاني..