عادل بن حمزة
الأكثر رعباً من العمى هو أن تكون الوحيد الذي يرى!
يدخل العدوان على لبنان يوماً آخر من دون أفق لحل قريب لأزمة تفجّرت رسمياً منذ 23 أيلول (سبتمبر)، بعد قرابة عام من تبادل القصف وفقاً لقواعد اشتباك سقط أغلبها منذ أن فجّرت إسرائيل أجهزة "البيجر" وأجهزة اللاسلكي، وقتها خرجت قيادات إسرائيلية تبرّر التوقيت، بكونها خشيت من انكشاف الأمر من طرف "حزب الله". وقد أكّدت الرواية الإسرائيلية التي استهدفت التمويه، بأن التفجيرات كانت عملية مبرمجة قبل شن هجوم واسع على جنوب لبنان والمواقع العسكرية لـ"حزب الله" على امتداد الجغرافيا اللبنانية، بهدف خلق ارتباك لدى قيادة الحزب. الواقع يشهد أن ذلك بالضبط ما صنعته تل أبيب أياماً فقط بعد "غزوة البيجر"، والتي تلتها مباشرة اغتيالات لأبرز القادة العسكريين لـ"حزب الله".
انفجر إذاً الوضع بين "حزب الله" وإسرائيل، وهو ما كان يخشاه الجميع، مخافة أن ينشأ عن ذلك انزلاق المنطقة إلى حرب إقليمية، والمقصود هنا هو دخول إيران الحرب لمساندة "حزب الله"، ذلك أنه إلى حدود يوم 23 أيلول (سبتمبر)، كان البعض لا يزال يعتقد بإمكان دخول طهران الحرب، هذه الفرضية سقطت بعد السابع من تشرين الأول (أكتوبر) بخصوص دعم "حماس" وعملية "طوفان الأقصى". لكن كثيراً من المراقبين اعتقدوا، ولا يزال البعض منهم يعتقد، أن تعاطي إيران مع "حزب الله" أمر مختلف تماماً، فهذا الحزب يُعتبر اللبنة الرئيسية لمحور المقاومة الذي استثمرت فيه طهران لأكثر من أربعة عقود لأسباب عقدية ومذهبية وإيديولوجية وسياسية وعسكرية. يكفي أن الحزب وجزءاً كبيراً من بيئته الحاضنة، يوجد على الحدود الشمالية لإسرائيل، وهو ما يجعل طهران على بعد خطوات من القدس التي حملت لواء تحريرها، على الأقل على مستوى الشعارات والدعم المادي والعسكري، وفقاً لسردية أنتجها النظام الإيراني وشكلت بالنسبة اليه على مدى عقود، جواز سفر لدعم ميليشيات وتفكيك دول، بما يخدم حضوره كرقم أساسي في المعادلة الإقليمية، لذلك كان البعض يقول بأن تدمير "حماس" وغزة ليس مشكلة إيرانية في النهاية، لكن تهديد قوة "حزب الله" ونفوذه ، يشكّل خطاً أحمر.
ونفوذه
في نيويورك، سقطت أقنعة النظام الإيراني، أو إن شئنا الدقة، ظهر وجه إيران جديدة، تريد أن تلقي السلاح إذا ما فعلت إسرائيل ذلك، وتسعى إلى السلام ولا تريد الحرب، ولم تعد تعتبر أميركا الشيطان الأكبر، وأنها لن تشارك في الحرب، ولن تتخلّى طوعاً عن مهمّتها الرسولية التي امتدت منذ قيام الثورة الإيرانية، وشكّلت وقوداً لتصديرها الى الخارج. جاء ذلك بالتزامن مع ما وصفته الصحف العالمية بأنه أعنف قصف في التاريخ الحديث، في عرضها لما يتعرّض له "حزب الله" ومعه لبنان. الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان في خضم هذا الخطاب الإيراني الجديد، أقرّ في مقابلة مع شبكة "CNN"، الاثنين، أن "حزب الله وحده لا يستطيع أن يقف في وجه دولة (إسرائيل) مسلحة تسليحاً جيداً جداً، ولديها القدرة على الوصول إلى أنظمة أسلحة تتفوق بكثير على أي شيء آخر"، متسائلاً: "إذا كنا نتحدث عن "حزب الله" وحده، فماذا يستطيع "حزب الله" أن يفعل بمفرده؟". فإذا كانت إيران تقرّ بأن "حزب الله" لا يستطيع مواجهة إسرائيل بمفرده، فكيف تسمح لنفسها بتركه وحيداً يجرّ بلداً بكامله إلى الانتحار؟ وهو بلد يوجد أصلاً على حافة الهاوية، وتُعتبر إيران طرفاً أساسياً من الأطراف التي أوصلت لبنان إلى تلك الوضعية، منذ أن تقرر جعل "حزب الله" دولة في قلب الدولة وربطه عقدياً وايديولوجياً بولاية الفقيه. وهو ما جعل قيام الدولة في لبنان متعثراً لعقود. كيف إذاً في لحظة مصيرية وصعبة، تتوقف طهران عن شعاراتها والتزاماتها وحماستها، لتتحدث بمنطق المصالح والتفاوض وميزان القوة؟ بل الغريب في الأمر، أن كل الأطراف الأخرى لا حق لها في توظيف هذا المنطق، فـ"حماس" و"حزب الله" والحوثيون وميليشيات الحشد الشعبي ليس مطلوباً منها حماية مصالح شعوبها، وهي شعوب مقهورة أصلاً تعاني التشرد والجوع والفقر واللجوء وأمراض الكوليرا كما في اليمن، وليس من حقها أن تصون أرواح شعوبها، لأنها لا يجب أن تنظر إلى ميزان القوة كما تفعل القيادة الإيرانية الحكيمة، وألّا تستحضر جواب نابليون بونابرت قبيل اندلاع معركة "واترلو"، عندما سأله أحد الجنود: هل الله معنا نحن الكاثوليك، أم مع الإنكليز البروتستانت؟! فأجابه: الله مع صاحب المدفع الأكبر!، وأن تلك الجماعات أيضاً لا حق لها في التفاوض لكي تحقق بعضاً من مطالبها بعيداً من الحرب التي تعجز أصلاً عن خوضها، ذلك أن التفاوض خيانة وتنازل عن الحق، وحده النظام الإيراني من يحق له التفاوض لأنه يتحمّل مسؤولية شعب...
إذاً
هذه العقلية الإيرانية البراغماتية هي في الواقع ليست جديدة، لكن الخطابات الإيرانية الأخيرة، سواء ما عبّر عنه المرشد الأعلى أو الرئيس بزشكيان أو نائب الرئيس جواد ظريف، تُعتبر تطوراً جدّياً في رؤية النظام الإيراني لواقع المنطقة والأخطار الجدّية التي تهدّد وجود النظام في طهران إذا لم يحسن قراءة الوضعية الجديدة، بل إن انتخاب مسعود بزشكيان و"التخلص" من ابراهيم رئيسي، وانهزام التيار المحافظ بالطريقة والكيفية التي تابعها الجميع في سياق إقليمي ودولي، من المفروض أنها تخدم سردية التيار المحافظ المعادي لأميركا والغرب وإسرائيل، كانت رسالة من الدولة العميقة في إيران الى أميركا والغرب، بأن طهران فهمت الرسالة وأنها مستعدة للتفاوض ولن تدخل في معركة كسر العظام، سواء في لبنان أم في غزة، لذلك جيء بمسعود بزشكيان، الذي لم يخف يوماً رغبته في طي صفحة العداء مع الشيطان الأكبر، وقد أظهر ذلك بوضوح خلال زيارته الأولى لنيويورك، في لحظة يخوض فيها "حزب الله" معركة وجودية.
المرحلة الجديدة واضحة الآن: إيران عاجزة عن خوض الحرب، لأن اقتصادها لا يسعفها في ذلك، ولأن المجتمع الإيراني سيستثمر أي حرب لإسقاط النظام. لذلك، فشعار النظام في إيران اليوم هو الحفاظ على وجوده بأي ثمن، وواهم من ينتظر تدخّله لإغاثة لبنان أو أي مكان آخر فالشيطان الأكبر أصبح ملاكاً...