جو معكرون
هناك تحوّل واضح في مجرى النزاع الروسي - الأوكراني منذ 6 آب/أغسطس الماضي عندما شن الجيش الأوكراني هجوماً مباغتاً على منطقة كورسك، أحد الأقاليم الإدارية في الاتحاد الفدرالي الروسي. عبر الجنود الأوكرانيون، بدعم من الدبابات والمركبات، لفرض أمر واقع جديد على الحدود الروسية بالسيطرة في غضون أسبوع على حوالي 1,000 كيلومتر مربع من الأراضي الروسية، فرضت خلالها كييف إدارة عسكرية منذ 15 آب الماضي.
هناك تساؤلات حول أهمية هذا التحوّل العسكري وانعكاساته، والأهم من ذلك عدم وجود أي رد عسكري جدي من موسكو، ومدى تأثير هذا الأمر على تراجع هيبة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي لم يحسم بعد المعركة في أوكرانيا فقط، بل يبدو غير قادر على حماية الأراضي الروسية ولا تسيطر قواته على جزء من حدودها. بوتين قد يضطر إلى استدعاء المزيد من مجندي الاحتياط للقتال على رغم وعوده بعدم القيام بذلك نظراً إلى المزاج الشعبي المعارض لهذه الخطوة.
هناك أيضاً تساؤلات حول قرار الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلنسكي الذي نقل الموارد العسكرية والبشرية المحدودة إلى هجوم كورسك، ما أدى إلى إضعاف القدرات الدفاعية الأوكرانية في مدينة بوكروفسك التي هي مركز لوجستي بارز للقوات الأوكرانية عبر توسيع سيطرة القوات الروسية شرق أوكرانيا من دون أي مقاومة أوكرانية جدية.
أوكرانيا انتقلت من الدفاع إلى الهجوم لأول مرة منذ بداية النزاع في شباط/فبراير 2022. زيلنسكي قال في 12 آب: "يجب إجبار روسيا على السلام". كييف لا تهدف إلى احتلال أراض روسية بل إلى فرض التفاوض على موسكو، ربما عبر تبادل الأراضي المحتلة من الطرفين، كما اعتقلت مئات الجنود الروس لمبادلتهم مع جنود أوكرانيين لدى موسكو. أوكرانيا اعتبرت في البداية أن أهدافها تحققت عبر تخفيف الضغط عن جنودها في محاور عدة، بحيث تراجع الاشتباك مع القوات الروسية إلى أقل مستوياته منذ 10 حزيران/يونيو الماضي، لكن في الأيام الماضية وسّعت القوات الروسية تقدمها شرق أوكرانيا.
هناك تساؤلات لماذا لم تعلم موسكو بهذا التوغل قبل حدوثه أو لم تتحرك لوقفه؟ "بلومبرغ" نقلت عن مصدر مقرّب من الكرملين أن الاستخبارات الروسية حذرت من توغل محتمل في كورسك وأنه لم يتم إبلاغ بوتين بهذه المعلومة، وهو أمر مستغرب نظراً إلى مسيرته الطويلة في أجهزة الاستخبارات الروسية. لا يبدو أن بوتين مستعجل لصد التوغل الأوكراني، الإعلام الروسي يقول إن بوتين أمر الجنرالات بإخراج القوات الأوكرانية من منطقة كروسك بحلول 1 تشرين الأول/أكتوبر المقبل. ليس واضحاً إذا اعتبر الروس توغل كورسك هدفه تحويل الأنظار عن جبهات أخرى، وبالتالي نظراً إلى أن القوات العسكرية الأوكرانية منتشرة أكثر من قدراتها البشرية، تحاول القوات الروسية استغلال الفرصة للتوسع شرق أوكرانيا قبل فتح جبهة كورسك جدياً.
هل ستنجح مغامرة زيلنسكي في النهاية أو تؤدي إلى خسارة كل من كورسك ودونباس؟ تقول الحكومات الغربية منذ بداية هذا النزاع إن دعمها لأوكرانيا يقتصر على تعزيز القدرات الدفاعية فقط، لكن هل معركة كورسك ستغيّر هذا الأمر؟ واشنطن قالت إنها لم تكن على علم مسبق بهذا التوغل لكنها لم تدنه بل صنفته كعمل عسكري يتماشى مع السياسة الاميركية في استخدام الأسلحة التي ترسلها إلى كييف. يمكن للطرف الأميركي تعزيز القدرات القتالية الأوكرانية عبر أسلحة نوعية، لكن لا يمكنه تعويض عدم قدرة الجيش الأوكراني على التماسك والسيطرة ميدانياً من دون دعم خارجي ليس متوافراً. هل لدى القوات الأوكرانية القدرة والموارد لحكم منطقة كورسك عسكرياً لأشهر وسنوات أبعد من مجرد التوغل؟
زيلنسكي قال إنه سيحمل إلى الولايات المتحدة قريباً "خطة انتصار" لطرحها على الرئيس الأميركي جو بايدن ونائبته المرشحة الرئاسية عن الحزب الديموقراطي كامالا هاريس والرئيس السابق مرشح الحزب الجمهوري دونالد ترامب. نتيجة الانتخابات الرئاسية في شهر تشرين الثاني/نوفمبر المقبل ستكون مفصلية لهذا النزاع، وليس سراً أن أوكرانيا تفضل فوز هاريس وروسيا تفضل فوز ترامب، لكن لا يمكن توقع تحوّل كبير في السياسة الأميركية خلال الأشهر القليلة المقبلة قبل الانتخابات الرئاسية الأميركية. آفاق التفاوض بين موسكو وكييف مغلقة، ولا يمكن إعادة تحريكها من دون مبادرة أميركية. كانت هناك محاولات لوساطة دولية لإقناع كل من موسكو وكييف بالتوقف عن قصف البنى التحتية للطاقة في البلدين، لكن حتى هذه المحاولات تم تجميدها الآن.
كيفية انتهاء معارك كورسك ودونباس حتى نهاية العام ستحدد مسار النزاع الروسي - الأوكراني وستمهد الأرضية لأي مقاربة للإدارة الأميركية الجديدة. لا يمكن تقليل أهمية أن هذا أول توغل داخل الأراضي الروسية منذ الحرب العالمية الثانية. صورة بوتين على المحك داخلياً وخارجياً في نزاع غيّر روسيا وأوكرانيا والعلاقة بينهما على المدى الطويل. بوتين دخل مواجهة مع أوكرانيا منذ عام 2022 من دون استراتيجية خروج في نزاع يستنفد الموارد الروسية، وزيلنسكي غامر في دخول منطقة كورسك من دون خطة لحماية ظهر جنوده وضمانة الدعم الغربي له، فيما واشنطن تراقب حتى تقطف ثمار هذه المعارك عندما تنضج.