علي حمادة
كان يوم الأربعاء في الولايات المتحدة يوم رجلين: رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي كسر أرقاماً قياسية عدة. فقد خطب للمرّة الرابعة أمام الكونغرس الأميركي، في سابقة لم تتوافر لأي زعيم أجنبي في تاريخ مبنى الكابيتول بقلب واشنطن دي سي، الذي يحوي السلطة التشريعية الفيدرالية الأميركية. وحطّم الرقم القياسي في عدد المرّات التي صفق له أعضاء الكونغرس، إما وقوفاً أو جلوساً. لكنه في المقابل، حطّم الرقم القياسي في عدد الأعضاء من المجلسين الذين تغيّبوا عن المناسبة، لاسيما من الحزب الديموقراطي، حيث قاطع الخطاب 100 عضو من مجلس النواب و28 عضواً من مجلس الشيوخ، أي ما يعادل نصف الأعضاء الديموقراطيين. والأهم أن من بين المقاطعين نائبة الرئيس كامالا هاريس، التي تسلّمت من الرئيس جو بايدن "شعلة" الترشّح للمنافسة على الرئاسة ضدّ الرئيس السابق دونالد ترامب، ومعها زعيم الأغلبية الديموقراطية في مجلس الشيوخ السيناتور تشاك شومر، والرئيسة السابقة لمجلس النواب نانسي بيلوسي، التي يُقال إنها والرئيس الأسبق باراك أوباما نظّما عملية تنحية الرئيس جو بايدن من السباق الرئاسي، واستبداله بنائبته كامالا هاريس. أما الرقم القياسي الآخر الذي حطّمه بنيامين نتنياهو يوم الأربعاء فتمثل في قوة التظاهرات التي سبقت وصوله إلى واشنطن ومبنى الكابيتول، والبرودة التي واجهها من عدد من وسائل الإعلام الأميركية. ومع ذلك، فقد ألقى خطاباً نارياً حاول من خلاله أن يستعير شخصية رئيس الوزراء البريطاني خلال الحرب العالمية الثانية ونستون تشرشل!
الرجل الثاني الذي اعتبر الأربعاء يومه كان الرئيس جو بايدن الذي خرج إلى الإعلام من وسط المكتب البيضوي في البيت الأبيض، ليشرح أسباب تنحّيه الذي أعلنه يوم الأحد الفائت. فقد ظهر بمظهر الزاهد في السلطة، والرئيس الذي قدّم مصلحة البلاد والحزب على مصلحته الخاصة. والأهم أنه تحدث عن ضرورة تسليم "الشعلة" إلى الأجيال الشابة. بمعنى آخر، حاز جو بايدن بقراره هذا إعجاب جمهور الحزب الديموقراطي، ومنحه أيضاً من خلال إعلانه دعم نائبته كامالا هاريس مكانة معنوية وعاطفية خاصة في قلوب الجمهور، الذي كان قد بدأ في الأسابيع القليلة الماضة يفقد الحماسة والاندفاع في المعركة الرئاسية. وشكّل أداؤه السيئ خلال المناظرة الشهيرة مع منافسه دونالد ترامب، وفي ما بعد تبعات محاولة الاغتيال التي تعرّض لها الرئيس السابق، أقسى الضربات المعنوية للحزب الديموقراطي في سباق رئاسي محموم، بدت فيه طريق ترامب معبّدة للوصول مجدداً إلى البيت الأبيض في 5 تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل. وقد منح قرار تنحّي بايدن وانتقال "الشعلة" إلى نائبته زخماً كبيراً للحزب الديموقراطي وأملاً كبيراً بإمكان إلحاق الهزيمة بترامب. ويكشف تدفق التبرعات الجديدة التي تجاوزت 100 مليون دولار في أقل من ثلاثة أيام، الأثر الإيجابي الذي حققه انسحاب بايدن.
بالنسبة إلى السباق الرئاسي وقضية حرب غزة، يمكن القول إن بنيامين نتنياهو جازف كثيراً بإلقاء خطاب أمام الكونغرس، لأنه أخرج إلى العلن الانقسام الكبير الذي تسبّبت فيه حرب غزة داخل المستوى السياسي الأميركي، وخصوصاً أن الردّ الإسرائيلي الدموي المخيف على عملية "طوفان الأقصى" فاق كل التصورات، باعتباره بالنسبة إلى العديد من السياسيين الأميركيين ما كان متناسباً مع حجم الضربة التي تلقّتها إسرائيل في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، بل إن قتل أكثر من 50 ألف مواطن فلسطيني وإصابة أكثر من 100 ألف تجاوز كل الحدود، حتى تلك المعترف بها من المستوى السياسي الأميركي كالحق في الردّ على هجوم حركة "حماس" على غلاف غزة صبيحة يوم 7 تشرين الأول (أكتوبر).
لقد جازف نتنياهو كثيراً لأن حرب إسرائيل ما عادت تحظى بالدعم المطلق. وشكّل في ما بعد وصف نانسي بيلوسي خطاب نتنياهو بأنه كان الأسوأ بين كل الخطب التي ألقاها الزعماء الأجانب الذين تحدثوا للكونغرس الأميركي، علامة على التحول في موقف الحزب الديموقراطي الذي فرضه، أولاً العنف الفائق للحرب الإسرائيلية على المدنيين الفلسطينيين، وثانياً تحول القواعد الناخبة نحو اليسار وغضب القواعد ذات الأصول العربية والإسلامية المؤثرة في عدد من الولايات المتأرجحة، وتحديداً ولاية ميشيغان، وثالثاً اقتناع أركان الحزب الديموقراطي أن نتنياهو يحاول أن يؤثر على الانتخابات لصالح دونالد ترامب.
انطلاقاً مما تقدّم، لا بدّ من العودة قليلاً إلى الرئيس جو بايدن، الذي وإن انسحب من السباق، فسيدعم نائبته كي تنتزع في المؤتمر العام للحزب الديموقراطي المقرّر منتصف آب (أغسطس) المقبل ترشيح الحزب. وكونه، بحسب ما أكّد، سيكمل ولايته حتى اليوم الأخير، سيؤثر كثيراً على حملة كامالا هاريس، ومن المحتمل أن يفجّر مفاجأة، فيشهد أداؤه تغيّراً كبيراً في الأسلوب، وبالتحديد في أسلوب تعامله مع بنيامين نتنياهو. فالأخير لم يأتِ في خطابه على ذكر الهدنة التي طالما طالبه بها بايدن وأركان إدارته، وبالتالي سيكون الأمر مثار خلاف متجدّد مع الرئيس الأميركي المحبط من الموقف الإسرائيلي. هذا في وقت تخرج فيه أصوات مقرّبة من الرئيس، تلقي بمسؤولية تعثر حملة بايدن على الأداء الإسرائيلي في حرب غزة، ما عرّض مكانة الولايات المتحدة وصدقيتها على المستوى الأخلاقي لأشدّ الأضرار دولياً، وتسبّب للرئيس بتراجع شعبيته في الأوساط الشبابية التقدمية، وذات الأصول العربية والمسلمة، بعدما اتُهم أنه يدعم حرب الإبادة في غزة. ومن هنا، يضمر الرئيس الأميركي جو بايدن نوعاً من الضغينة لنتنياهو وللفريق اليميني المتطرّف الذي يسيطر على الحكومة الإسرائيلية. وثمة من يعتقد أن الرئيس، وفي ما تبقّى من عمر ولايته، سوف يتغيّر كثيراً في تعامله مع نتنياهو وحكومته. ومن المتوقع أنه انتقاماً لكل ما سبق ذكره، قد يرفع منسوب الضغط على إسرائيل إلى أقصى الحدود، لإجبارها على القبول بوقف إطلاق النار في غزة، وبالتالي تفكيك لغم جبهة لبنان والدخول في مفاوضات مع "حزب الله" بواسطة الحكومة اللبنانية والفرنسيين، في سبيل تسجيل انتصار معنوي لعهده، وتجييره لمرشحة الحزب الديموقراطي المحتملة، تداركاً لإمكانية استفادة دونالد ترامب من الموقف قبل موعد الانتخابات، وحتى بعده إذا ما فاز بالرئاسة في 5 تشرين الثاني.
لقد بان خلال زيارة بنيامين نتنياهو لواشنطن موقف أركان الحزب الديموقراطي المعادي. وأمامه وحكومته أيام صعبة جداً سيتسبب بها رئيس مغادر لم يعد لديه ما يخسره، وخلفه مرشحة بديلة تعرف أنه يراهن على خصمها الجمهوري. والحال أن الرئيس المغادر لا يزال أمامه متسع من الوقت (إذا سمح له أركان الحزب الديموقراطي) كي يؤذي نتنياهو وحكومته، ويخرب عليه حساباته، ويساهم في دفعه دفعاً للقبول بصفقة وقف إطلاق النار التي لا يزال يرفضها، وربما إنهاء الحرب. لا بل إنه قد يسهم انتقاماً لخيبة أمله بتغليب الخيار الإيراني في المنطقة ضدّ حلفاء أميركا التاريخيين، الذين قد يتّهمهم بأنهم عرقلوا سياسته في المنطقة.
لقد تحوّل إلى نمر جريح!