ثلاثة أشهر فقط فصلت بين الاجتماع الذي عقده وزراء خارجية حلف شمال الأطلسي (الناتو) في مقره ببروكسل (3-2024/4/4) احتفالاً بالعيد ال75 لتأسيسه وبين القمة الأطلسية التي عقدها قادة دول الحلف ال32 للغرض نفسه، أي للاحتفال بالذكرى ال75 لتأسيسه التي استضافتها العاصمة الأمريكية واشنطن على مدى ثلاثة أيام.
في اجتماع وزراء الخارجية، الذي كان الغرض منه هو الإعداد لقمة قادة الحلف في واشنطن، لم يكن صعباً اكتشاف مدى العجز الذي استحكم بهذا الحلف سواء على مستوى التردد والضعف، خاصة الأوروبي، في تدبير مصادر التمويل اللازمة لتمكين أوكرانيا من هزيمة روسيا، ما دفع وزيرة المالية الأمريكية لطرح فكرة «السند الأوكراني» في قمة وزراء المال لمجموعة الدول الصناعية السبع الذي عقد بعد شهر ونصف من ذلك الاجتماع الذي عقد في إيطاليا (2024/5/24)، وهي الفكرة التي تطالب باستخدام الفوائد التراكمية للأصول الروسية المجمدة في البنوك الأوروبية على وجه الخصوص لتمويل الاحتياجات الأوكرانية، أو على مستوى القبول بعضوية أوكرانيا في الحلف.
لم تكشف قمة وزراء خارجية دول الحلف عن عجز الحلف في القيام بالأدوار المطلوبة في الحرب الأوكرانية ومستقبل أوكرانيا فقط، بل كشفت أيضاً عن «واقع تنازعي» بين أعضاء الحلف الأوروبيين والأمريكيين الشماليين (الولايات المتحدة وكندا) على نحو ما ورد على لسان الأمين العام للحلف ينس ستولتنبرغ عندما حرص على تأكيد الحاجة «لاستمرار الحلف بجناحيه الأمريكي والأوروبي»، الأمر الذي طرح، وقتها، الكثير من علامات الاستفهام حول مستقبل الحلف.
اختلف الأمر كثيراً في قمة واشنطن الأطلسية، حيث أظهرت هذه القمة حالة من الاستنفار للقوى وإظهار التوحد والتشدد في مواجهة الأزمات والتحديات، لدرجة أدت إلى استعادة أجواء «الحرب الباردة» السابقة مجدداً. لم تكتف هذه القمة بالتعهد بتقديم 40 مليار دولار كمساعدات عسكرية لأوكرانيا خلال العام المقبل، وأكد البيان الصادر عن هذه القمة، ضمن بنوده ال38، التزام الدول الأعضاء بإنفاق دفاعي عند مستوى لا يقل عن 2% من الناتج المحلي الإجمالي (كان هذا البند محور خلاف الرئيس السابق دونالد ترامب مع الحلف وتهديده بالانسحاب الأمريكي). وقال البيان: «نؤكد من جديد التزامنا المستمر بالتنفيذ الكامل لالتزام الاستثمار الدفاعي المتفق عليه في (قمة فيلنيوس السابقة عام 2023) بحد أدنى 2% من الناتج المحلى الإجمالي، وندرك أنه يجب بذل المزيد من الجهود بسرعة للوفاء بالتزاماتنا كحلفاء في الناتو»، كما أكد الحلف دعمه ل«مسار لا رجعة فيه» لإدماج أوكرانيا في المجتمع «الأورو- أطلسي»، وعضوية الحلف.
كما أفاد البيان، بأن القمة قررت إنشاء «بعثة للمساعدات الأمنية والتدريب لأوكرانيا تابعة لحلف شمال الأطلسي لتنسيق الإمدادات العسكرية والتدريب لأوكرانيا من دول الناتو وشركائها، وتتمثل مهمتها في وضع المساعدات الأمنية لأوكرانيا على أساس آمن».
لم يكتف البيان بذلك بل صعّد، بشكل غير مسبوق ضد الصين واتهمها بتقديم دعم واسع النطاق «للقاعدة الصناعية الدفاعية الروسية»، وجاء في البيان أن هذا يشمل نقل المواد ذات الاستخدام المزدوج مثل مكونات الأسلحة والمعدات والمواد الخام التي تستخدم كمدخلات لقطاع الدفاع الروسي. ودعا الأمين العام للحلف إلى فرض عقوبات على إيران والصين لدعمهما روسيا، التي وصفها بأنها، «أكبر تهديد لأمن دول الحلف واستقرارها»، لكن البيان اهتم بالنص على، أن الحلف «لا يسعى إلى المواجهة ولا يشكل تهديداً لروسيا».
وضمن سياسة التصعيد ضد الصين سعى قادة الحلف إلى تعزيز العلاقات مع شركائهم الآسيويين عبر محادثات مع قادة أستراليا واليابان ونيوزيلندا وكوريا الجنوبية (ما يسمى برباعية الهندي- الهادي)، وأعرب قادة الناتو عن «قلقهم البالغ» من تعميق العلاقات بين بكين وموسكو، وقالوا في بيان شديد اللهجة: إن الصين «أصبحت عامل تمكين حاسماً لروسيا في حربها ضد أوكرانيا من خلال ما يسمى ب(شراكة بلا حدود) معها، ودعمها الواسع النطاق للقاعدة الصناعية الدفاعية الروسية «واعتبر المستشار الألماني أولاف شولتس، أن «الصواريخ الأمريكية البعيدة المدى التي تعتزم واشنطن نشرها في بلاده تساعد في (ضمان السلام)».
هذا التصعيد اقترن بتوسيع اهتمامات الحلف وشركائه بجنوب المتوسط والشرق الأوسط وإفريقيا لمواجهة «التغلغل الروسي - الصيني».
كيف جاء هذا التحول الكبير على مدى لا يزيد على ثلاثة أشهر؟
هناك اجتهادات تتحدث عن التحولات العسكرية الدرامية في أوكرانيا لمصلحة روسيا، والنشاط الدبلوماسي الروسي المكثف مع الصين وكوريا الشمالية وفيتنام، والتحولات الانتخابية الداخلية في أوروبا لمصلحة اليمين المحافظ والمتطرف، وكلها أمور داعمة لهذا التحول، لكن السبب الأهم هو شبح دونالد ترامب الذي سيطر على أجواء قمة الناتو وأجبر قادته الأوروبيين على تنظيم «قمة غير مباشرة» مع ترامب عبر رجاله الذين انتشروا في أروقة تلك القمة، وأظهرت الرعب المستحكم على قادة أوروبا من احتمال مجيء ترامب رئيساً جديداً للولايات المتحدة وخطر انسحابه المحتمل من الأطلسي وترك أوروبا وجهاً لوجه مع روسيا.