أخيراً، أسفرت الجولة الثانية من الانتخابات البرلمانية الفرنسية عن تبخّر أحلام اليمين الفرنسي المتطرّف (حزب الجبهة الوطنية الفرنسية التي ولدت سياسياً في عام 1972)، في الوصول إلى السلطة في فرنسا.
ففي تقدير نخبة من المحلّلين السياسيين الجزائريين المتفائلين، فإن فشل هذا اليمين يعني انفراجاً مهمّاً ولو جزئياً وموقتاً، لصالح أفراد الجالية الجزائرية بشكل خاص، والجاليات الأجنبية الأخرى التي خلقتها ظروف الكولونيالية وهجرة الأيدي العاملة معاً.
في هذا السياق، هناك فريق آخر من المتخصصين في شؤون الهجرة والجالية الجزائرية في فرنسا يقول، إن تلاشي أمل اليمين الفرنسي المتطرّف في الوصول إلى السلطة هذه المرّة لا يعني الزوال الأبدي للتهديد الذي ما فتئ يستهدف هوية الجالية الجزائرية ومصالحها. ولا يُنتظر أيضاً أن يؤدي إلى قبول الفريق الجديد الذي سيدير شؤون فرنسا بعد هذه الانتخابات وعقب تشكيل حكومته الجديدة خلال مدة قصيرة، بشكل كامل باتفاقات عام 1968، التي تتمتع الجالية الجزائرية بموجبها بالكثير من الامتيازات التي لا تحظى بها جاليات أجنبية أخرى في المجتمع الفرنسي.
وهناك من يرى أن من الضروري عدم الاعتماد أيضاً، وبشكل مطلق، على فسيفساء اليسار الفرنسي ومن يسبح في فلكه، خصوصاً في ظل ضعف تنشيط الجزائر ميراث علاقاتها القديمة مع ممثلي جزء من اليسار الفرنسي، الذي كان ولا يزال يملك تقاليد الدفاع عن الأقليات المهاجرة، مهما كان نسبها، ومع الجزء الآخر من ممثلي اليسار الأحياء الذين وقفوا إلى جانب القضية الوطنية الجزائرية في مرحلة الحرب التحريرية، علماً أن نسبة معتبرة من ممثلي هذا الجزء من اليسار قد توفوا أو أدركتهم الشيخوخة، ولم تنسج الدولة الجزائرية في عهد استقلالها علاقات قوية مع الأجيال الجديدة من أبنائهم، تضمن وقوفهم إلى جانب الجالية الجزائرية في أثناء الأزمات التي تتعرّض لها، جراء تقلّبات السياسات الفرنسية تجاههم وتجاه الجزائر في كثير من الأحيان.
في الواقع، عدم فوز اليمين الفرنسي المتطرّف بالأغلبية البرلمانية، التي كان من المفترض أن تمنحه بطاقة الوصول إلى سدّة السلطة، لا يعني أن هذا اليمين قد زال أو سيزول من المشهد السياسي الفرنسي بشكل نهائي، لأن هذا اليمين يملك وجوداً مادياً فعلياً على رأس كثير من البلديات عبر التراب الفرنسي، وهي تعتبر المطابخ القاعدية التي تُطبخ فيها السياسات المحلية، بما في ذلك سياسات الإسكان والعمل والتعليم... وهلمّ جرّا.
ينبغي أن يُفهم أيضاً أن فوز هذا اليمين الفرنسي بأغلبية حصة فرنسا من المقاعد في البرلمان الأوروبي سيكون له تأثير حاسم في صوغ قوانين الاتحاد الأوروبي الملزمة للجمهورية الفرنسية، بما في ذلك قوانين الهجرة والتفاصيل ذات الصلة بالهوية الثقافية والتعليمية، بغض النظر عن الحزب الحاكم في البلاد الفرنسية. على هذا الأساس، فإنّ فشَل حزب الــ"لوبّن" هذه المرّة في الانتخابات البرلمانية، رغم أنه كاسح، لن يجرف جميع مكونات البنية الثقافية اليمينية المتطرّفة دفعة واحدة، وفقاً لأمنيات التفكير الرغبي عندنا.
ونظراً إلى هذا، فإن تهديد الجالية الجزائرية - وكذلك الجاليات المغاربية والعربية المشرقية والأجنبية الأخرى في فرنسا – قائم، وكي يتمّ التصدّي له فمن اللازم رسم المخططات التي تساعد في التعامل مع أي تهديد مقبل، في أطر معروفة ومعترف بها، مثل القوانين الفرنسية التي تضمن "حقوق المواطنة"، بغض النظر عن العرق واللون والهوية الثقافية والروحية، وكذلك بواسطة تفعيل القوانين الدولية التي تُلزم الدولة الفرنسية وتمنعها من خرقها.
في هذا الخصوص بالذات، ينبغي أن تشرع الجزائر فوراً في نفخ الحياة في ما تبقَّى من تلك العلاقات القديمة التي كانت تربط حركة التحرر الوطني بمثقفي اليسار الفرنسي الرافضين حينذاك لظاهرة الكولونيالية من جهة، وأن تنجز من جهة أخرى شبكة من الاستراتيجيات العملية الجادة التي من شأنها أن تؤدي إلى إيجاد حلول مرضية لـ"ملف الذاكرة" الذي ما فتئ يشهد مداً وجزراً منذ سنوات. والحال فإن الدراسات المكرّسة لواقع الجالية الجزائرية في فرنسا تنصح بالمضي قدماً على طريق خلق مؤسسات جزائرية في الفضاء الفرنسي للجالية الوطنية التي تضمن لها الحيوية والاستقلالية والحياة الأفضل والتأثير الإيجابي السلمي في المجتمع الفرنسي، مثل المصاريف ومكاتب التشغيل والحماية من البطالة، وغيرها.
ويمكن تلخيص أولويات الاستراتيجيات المذكورة آنفاً في محاور أخرى عدة، نذكر منها على سبيل المثال: ضرورة الإسراع في تأسيس المراكز الثقافية التي تقدّم مضامين ثقافة المجتمع الجزائري وفنه وفكره إلى مكونات المجتمع الفرنسي، مع ضمان إسناد مهمتها للشخصيات الثقافية والفنية والفكرية الجزائرية المتفتحة على الثقافة الفرنسية، والعارفة بتاريخها ومضامينها وأشكال تعبيرها، والقادرة على أداء مهمّة الحوار الثقافي والحضاري مع الآخر الفرنسي، بالتركيز على المجتمع المدني الفرنسي الذي يجهل غالباً تاريخ الجزائر وثقافتها وفنونها عبر التاريخ.
مما لا شك فيه، أن هذا النوع من المراكز لن ينجح إن لم يُدعم بإنشاء منابر إعلامية جزائرية متنوعة وحديثة، ينطق الموجّه منها إلى الفرنسيين وإلى الجاليات الأوروبية الأخرى المقيمة في فرنسا باللغة الفرنسية، وينطق بعضها الموجّه بالتزامن إلى الجاليات العربية والأفريقية بلغاتها التي تسهل عمليات التواصل معها.
في الحقيقة، تحتاج الجزائر إلى مشروع تعليمي خاص بالجالية الجزائرية، تتجاور فيه الحساسية الثقافية والحضارية الإنسانية الفرنسية مع نظيرتها الجزائرية التي تشكّل الشخصية القاعدية الوطنية لأفراد الجالية الوطنية بشكل خاص، ولأفراد الجاليات العربية والأفريقية بشكل عام، من أجل تكوين أجيال جزائرية مهاجرة تتميز بمرونة الحوار الثقافي والانفتاح على تنوع الحضارات.