يشير العنوان إلى مسألتين، إذ ثمة شعبوية يمينية باتت تنتشر منذ ثلاثة عقود، أي منذ انهيار الاتحاد السوفياتي السابق ودول المنظومة الاشتراكية، وقد مهّد لها صعود الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان، تماماً مثلما كان ثمة شعبوية "يسارية" كانت قد صعدت بعد الحرب العالمية الثانية، بخاصة في أوروبا الشرقية، التي امتد نفوذها، أو موضتها، إلى دول في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، باعتبارها بمثابة مخلص من الاستعمارين القديم والجديد المتمثل بالهيمنة الأميركية، أو الاحتكارات الرأسمالية، على العالم.
أما من الجهة الثانية، فإن العنوان يفيد بأن الشعبوية اليمينية الصاعدة اليوم تعني أن تلك الدول التي اختارت، بعد الحرب العالمية الثانية، طريق الليبرالية الديموقراطية، والتي هيمنت فيها الأحزاب العمالية أو الاشتراكية الديموقراطية في أوروبا، أو في قارات أخرى، بانتهاجها سياسة تقوم على إقامة دولة "الرفاه" التي تلتزم التقديمات الاجتماعية لإعادة التوازن في توزيع الثروة بين المواطنين، بحيث تضمن لهم نوعاً من المساواة في الخدمات، لا سيما في الصحة والتعليم والبني التحتية، من دون أي تمييز، ما أمكن ذلك، باتت تشتغل على نقيض ذلك بحكم التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية الحاصلة فيها.
وكان المفكر الاقتصادي المصري رمزي زكي أفضل من تحدث عربياً عن تلك الظاهرة من كل جوانبها في كتابه المتميز: "الليبرالية المتوحشة" (1923، دار سينا للنصر، القاهرة)، كما تحدث وقتها عن انفتاح مسار الخصخصة على المجتمعات التي تحصل بطريقة تؤدي إلى استيلاء أفراد على الملكيات أو الشركات العامة، وضمنها البنى التحتية، بدعوى المبادرة الفردية، والليبرالية الاقتصادية، لا سيما أن ذلك اقترن مع تآكل كتلة الأجور، نسبة إلى ارتفاع مستوى المعيشة، ومع ارتفاع نسبة الاقتطاعات الضريبية، وتضاؤل الحاجة إلى الأيدي العاملة.
الفكرة الأساسية هنا، أيضاً، أن الليبرالية المتوحشة اقترنت بثلاثة تطورات: انفتاح مسار العولمة، والتطورات العلمية والتكنولوجية، وتطور وسائل الاتصال، والتي كان من آثارها نقل شركات أميركية وأوروبية عملاقة إلى حيث الأيدي العاملة الرخيصة في آسيا وأفريقيا، بخاصة الصين والهند، إذ إن تلك البلدان لا تفرض اقتطاعات ضريبية كبيرة ولا تفرض قيوداً على بعض الصناعات الملوثة للبيئة، وليس فيها ضمانات ولا نقابات للعمال.
في المحصلة، فقد كان من نتيجة هذا التحول تراجع قوة النقابات في الدول الأوروبية، وارتفاع نسبة البطالة، وتآكل التقديمات الاجتماعية، الأمر الذي خلق مشكلات مثلاً في أنظمة التقاعد والرعاية الصحية وضمان الشيخوخة، ما عرّض المجتمعات الغربية إلى هزات عديدة.
وبديهي أن يكون لليبرالية المتوحشة، أيضاً، أثرها على الصعيد السياسي، وهو تمثل بالانقضاض على قيم الليبرالية الديموقراطية، وتالياً انتعاش التيارات اليمينية والشوفينية، بخاصة أن كل تلك التطورات التي حصلت في ظل توترات كبيرة في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية نجمت عنها موجات كبيرة من الهجرة إلى أوروبا وإلى الولايات المتحدة، التي كان من آثارها جلب أيد عاملة رخيصة، أثقلت بدورها على عمال تلك البلدان، وتالياً فهي خلقت موجة من ردود الفعل، المناهضة للمهاجرين، لأسباب اقتصادية، ولأسباب سياسية وثقافية، أيضاً، بحيث بتنا نشهد ما بات يعرف بظاهرة الصراعات الهوياتية والثقافية في تلك البلدان، وضمنها ظاهرة "الإسلاموفوبيا".
المفارقة، أن تلك الأحزاب التي ترفع شعار الحفاظ على الخصوصية الثقافية والهوياتية، والإسلاموفوبيا، في الغرب، وضمنها الحد من الهجرة، وحتى نزع المواطنة عن المهاجرين، وإعادتهم إلى أوطانهم، ترجع في جذورها إلى أحزاب أو تيارات يمينية فاشية، في تلك البلدان، كانت تعادي اليهود، وهي المسؤولة عن ظاهرة "اللاسامية"، وعن إبادة اليهود في أوروبا إبان الحرب العالمية الثانية.
القصد من كل ذلك الإشارة إلى أن ظاهرة صعود اليمين الشعبوي، والفاشي، في البلدان الأوروبية، هي إحدى نتائج إخفاق أنظمة الاشتراكية الديموقراطية التي لم تتطور بما يتواكب مع متطلبات العصر والعولمة، مثلما هي نتاج تآكل الليبرالية الديموقراطية في تلك البلدان، وتراجع التقديمات الاجتماعية، وضمنها تآكل البعد الليبرالي في الديموقراطية، لمصلحة اختزال الديموقراطية بحرية الأحزاب، والانتخابات وتداول السلطة، مع هيمنة السلطة على المجالين السياسي والاجتماعي، وعلى سطوة الشركات والاحتكارات في المجال الاقتصادي.
تلك هي إذاً الشعبوية اليمينية الجديدة، التي نرى أطيافها تنتشر في العالم، من ترامب في الولايات المتحدة، إلى بوتين في روسيا، ومودي في الهند، مروراً بميلوني في إيطاليا ولوبن في فرنسا، و"البديل" في ألمانيا، وحتى نتنياهو في إسرائيل.
باختصار، الشعبوية اليمينية تعني، في أغلب الأحوال، هيمنة الاحتكارات، والعيش على الصراعات الهوياتية، ونبذ الآخر، وكل ذلك من محفزات الحروب والفاشية، للأسف، ويؤمل أن العالم بات محصناً إزاء كل تلك الظواهر السلبية، وأن الليبرالية الديموقراطية ستثبت نفسها مجدداً.