اصطلاح Pax Americana الذي استلهمه الباحثون السياسيون من اصطلاح تاريخي آخر Pax Romana ليصفوا به العصر الذي تبدت ملامحه عقب نهاية الحرب العالمية الثانية 1945، ببروز الهيمنة الأميركية على النظام الدولي، الذي يمكن ترجمته جزافاً بـ"السلام تحت الهيمنة الأميركية"، عاد للصدارة ضمن الاهتمامات السياسية للمفكرين السياسيين الأوروبيين للتعبير عن مخاوفهم من نهاية عصر الهيمنة الأميركية وأثره في الأوضاع الدولية.
قراءة بعض الأوراق حول المخاوف المتزايدة في أوروبا من هذا الموضوع تشير إلى أنها برزت بعد النجاحات التي حققها اليمين الشعبوي، السائر على درب ما يعرف في أميركا بتيار "لنجعل أميركا عظيمة مجدداً" بقيادة دونالد ترمب، وهي عملية إحياء لظاهرة سياسية تاريخية تعرف بالانعزالية، وتأثير هذه الموجة الكاسح في أوروبا كما يظهر جلياً من النتائج التي يحققها اليمين الشعبوي الأوروبي، وتزداد المخاوف في القارة العجوز من أن الحماية التي تمثلها المظلة الأميركية ستتلاشى مع زيادة تأثير التيارات الانعزالية، وستضطر معه أوروبا للبحث عن مساراتها الوطنية الخاصة لتأمين دفاعها وأمنها بعيداً من حليفها الأكبر.
وتأتي المخاوف الأوروبية في توقيت استثنائي لم يكن العالم فيه أكثر قابلية للاشتعال والتشظي كما هي الحال اليوم، في ظل صراع بين معسكرين، الغربي الذي عمل خلال العقود الماضية ضمن سردية التقدم والحرية وحقوق الإنسان إلا أنه اقترف أخطاء كارثية أسهمت في زعزعة الاستقرار الدولي وتأجيج الصراع واستخدام القوة والمعسكر الشرقي المعروف باسم "محور الممانعة" الذي يسعى إلى إسقاط النظام العالمي الحالي، وصياغة نظام عالمي جديد متعدد القطبيات يعظم من خلاله مصالحه، ما يجازف بجعل العالم خليطاً من الجيوب الإمبراطورية المسيجة والمتصارعة.
ولاحتمالية زوال النفوذ الأميركي أستعرض بعض الأفكار التي تضمنتها قراءتين على ضفتي الأطلسي مثل تلك التي عرض لها أخيراً فيليب دوفيلبان السياسي والدبلوماسي اليميني الفرنسي، في مقال بعنوان "فرنسا: إعادة ضبط البوصلة الإستراتيجية"، وتلك التي تناولها فريد زكريا الإعلامي الأميركي ذي الميول الليبرالية اليسارية المعتدلة، في معرض ترويجه لكتابه الجديد "عصر الثورات".
رؤية يمينية أوروبية
يرى دوفيلبان أن عصر "باكس أميريكانا" انتهى تاركاً العالم في حال الفوضى العارمة، فخلال ثلاثة عقود من الزمن اعتقدت الولايات المتحدة وحلفاؤها أنهم قادرون على إعادة تشكيل العالم على صورة أميركا، من خلال النفوذ وتمثل النموذج الأميركي وهيبة القانون الدولي إلا أنها اتبعث من أجل تحقيق نفوذها كشرطي عالمي عناصر القوة المفرطة مما أدى لفقدانها التركيز على الأهداف، وفي المقابل إثارة مقاومة عالمية يدفع العالم ثمنها الباهظ إلى اليوم. فالعالم أصبح أكثر اشتعالاً وخطراً من أي وقت مضى، وينسب ذلك إلى عوامل عدة، بما في ذلك تفكك القوى العالمية وتآكل القواعد الدولية التي وضعت بعد الحرب العالمية الثانية.
ويعبر دوفيلبان عن قلقه من تفكك الإجماع الدولي الذي توصل إليه العالم عام 1945 الذي كان يهدف إلى حل الأزمات بصورة سلمية.
أسهمت القوى الغربية ودول مثل روسيا والصين في هذا التفكك من خلال التصرف خارج إطار القانون الدولي، مما أدى إلى عالم أكثر اضطراباً وتفككاً، وهو يرى أهمية التعلم من الأخطاء السابقة بدلاً من التركيز عليها، ويدعو إلى اتجاه إستراتيجي جديد يتجنب أخطار الصراع العالمي ويسعى إلى عالم متعدد الأقطاب حيث تتوازن القوى بصورة أكثر عدلاً بين الأمم. ويتناول بالتحليل الصراعات الإقليمية مثل تصاعد النزاعات منذ "الربيع العربي" والحروب المتواصلة في المنطقة العربية كأمثلة لتصاعد النزاعات الإقليمية إلى أزمات أوسع نطاقاً. ويخلص الكاتب في تقييمه لدعوة فرنسا لأداء دور قيادي في الدعوة إلى عالم متعدد الأقطاب والعمل نحو نظام دولي أكثر استقراراً وتنظيماً.
وربما نختلف مع دوفيلبان في تفصيل بسيط فهو يرى أن فرنسا هي المؤهلة للعب دور لبناء عالم متعدد الأقطاب، ونظام دولي أكثر استقراراً وتنظيماً، إلا أن وضعها الاقتصادي والعسكري الحالي لا يؤهلها للعب هذا الدور، فمن الزاوية الاقتصادية تعاني فرنسا نمواً اقتصادياً بطيئاً، ومعدلات بطالة مرتفعة، وديوناً عامة كبيرة. أما من الناحية العسكرية، فعلى رغم قدراتها المتقدمة فإن تراجع نفوذها في أفريقيا يعكس تحديات تمويلية وسياسية تؤثر في جاهزيتها ومكانتها الدولية.
إلى جانب ذلك، تواجه فرنسا تحديات داخلية مثل الاحتجاجات والإضرابات التي تؤثر في استقرارها، وتراجع نفوذها العالمي. وما يزيد الوضع صعوبة توجهات اليمين الشعبوي لتطوير رؤية انعزالية في حال تمكنه من الحكم، ويمكن لفرنسا أن تؤدي دوراً مؤثراً في النظام الدولي المتعدد القطبية، من خلال شبكة واسعة ومعززة من التحالفات مع بقية الدول الأوروبية، وتطوير إستراتيجيات فعالة للتعامل مع التحديات الداخلية والخارجية التي تواجهها. إلا أن ما خلص إليه دوفيلبان حول نهاية عصر "باكس أميريكانا" يعتبر عنصراً مهماً لمزيد من البحث والتقصي.
رؤية ليبرالية أميركية
في تناوله للنقاشات التي أجراها أخيراً في أوروبا حول كتابه الجديد "عصر الثورات"، يخلص فريد زكريا بأن الناس حتى أولئك الأثرياء والمتعلمين والنخب السياسية كانوا منزعجين من الاضطرابات العميقة في الشؤون الدولية، ويخشون أن تقودهم لأوقات أشد ظلمة، معربين عن القلق من أن يقود فوز دونالد ترمب في الانتخابات الأميركية في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل إلى عالم جديد وخطر، والتخوف من أن تدير أميركا ظهرها لأوروبا، ومن ثم انهيار وتفكيك البنية الأمنية للقارة، في مواجهة "محور الممانعة" الذي يعادي الحضارة والقيم الغربية.
ويؤكد زكريا على ضرورة أن يشعر الأميركيون بمزيد من الثقة في حيوية وفضائل نظامهم السياسي، إلا أنهم مع الأسف يفقدون الثقة في قدراتهم وسط التحديات العالمية والمحلية، لكنه يشير إلى أن الولايات المتحدة لا تزال تتمتع بقوة كبيرة مقارنة بالدول الأخرى، وأن القيم الغربية تظل جذابة على الصعيد العالمي على رغم الانتقادات، وأن التحديات الحالية قد تكون مدخلاً لإعادة تقييم وتحسين النظام الديمقراطي الأميركي بدلاً من قمع المشكلات كما يحدث في الأنظمة الاستبدادية، ويتساءل زكريا ما إذا كان من الممكن الخروج من هذا الوضع والتوصل إلى تسوية ما تدفع البلاد إلى الأمام، وبتفاؤل يعتقد زكريا أن "أميركا تمر بزوابع من التغيير، وأنه مع الأسف فإن المشكلات المترتبة لهذه المنافسة يتم تسليط الضوء عليها باستمرار، من حيث إن الأميركيين يغسلون ملابسهم القذرة على مرأى ومسمع من الجميع".
يجمع كثير من المراقبين أن الحراك السياسي والاجتماعي الذي يتسبب به الشعبويون، كان ولا يزال جزءاً أصيلاً وميزة للنظام الديمقراطي الغربي، ولا تزال شعوب العالم تفضل النموذج الغربي بقيمه وشوائبه على حد سواء، ولا ينبغي النظر إليه باعتباره مهدداً خطراً لبقاء الحضارة الغربية، من حيث إن مصدر قوة النظم الديمقراطية يتلخص في منح الناس حق الاختيار مما يجعله مصدر إلهام لشعوب العالم، فيما يرى آخرون أن الطريق الذي تسلكه هذه التي أطلق عليها زكريا بالزوابع، سيؤدي حتماً إلى انهيار النظم السياسية الديمقراطية وبروز التسلطية الفردية، والنزعة الانعزالية التي تتهدد جوهر اللعبة الديمقراطية.
ويبقى السؤال الكبير، هل سيكون بمقدور النظام السياسي الأميركي قائد عصر "باكس أميريكانا" تجاوز التحديات التي يطرحها الشعبويون، واستيعابها لمصلحة بقاء واستمرارية النظام الديمقراطي، ومواجهة التحديات التي يفرضها محور الممانعة للهيمنة الأميركية على النظام الدولي، ومواصلة تقديم أطر متجددة للتعاون الدولي تضمن مواصلة دفع روح المنافسة، والتكامل والمنافع المتبادلة والإبداع العالمي، أم أن العالم يدخل فعلاً مرحلة نهاية عصر "باكس أميريكانا" والانزلاق إلى المجهول الذي سيحمله تفريخ التعدديات القطبية غير المنضبطة، وربما المتصارعة.